قصة كفاح ووفاء النقابات.. والدكتور داود حيدو

اتسمت الحركة النقابية السورية بوفاء مناضليها وقواعدها وعمالها لها ولوحدتها، وبالمقابل سعت النقابات وكوادرها القيادية إلى أن تساند ولا تنسى من ساهم في بنائها وأنشطتها والانخراط في مسيرة كفاحها دفاعاً عن مصالح العمال وفاعلية النقابات، وحاولت أن تتعاون مع من أسهم في معالجة قضايا العمل والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، والمشاركة في حماية الوطن واستقلاله وتحرره وتطوره السياسي، فكانت رحلة الوفاء المتبادل والعطاء المشترك والارتقاء المتلازم للوطن وللنقابات ولطليعة من عمال ونقابيين وقادة صهرتهم حرارة الكفاح النبيل ودفعتهم إمكاناتهم وعصاميتهم إلى مقدمة المشهد ومسيرة النضال.

وفي هذا الإطار تميز التنظيم النقابي في سورية بتقاليد تكريم البعض من هؤلاء ومن كوادر النقابيين القدامى، واحترام المتقاعدين النقابيين وإظهار التقدير اللائق للقياديين النقابيين الذين يكملون مهام عملهم الوظيفي والنقابي، أو الذين لا يكتب لهم الاستمرار بمواقعهم القيادية لأسباب مختلفة ويخلونها لرفاق جدد وجيل جديد من النشطاء والقياديين والكوادر النقابية من خلال انقضاء الأزمنة والدورات النقابية الانتخابية الدورية، وبحكم الاختيارات والانتخابات الحاصلة في مؤتمرات التنظيمات النقابية.

في الغوص والبحث الحريصين بين طيات وثائق وتاريخ العمل النقابي ومذكرات قادة الأحزاب السياسية والشخصيات العامة الوطنية في سورية، ومن خلال مطالعة الكتب والمقالات التي تصدر وفاء وتكريماً للراحلين منهم، يتكشف أمام المتابع حقائق منسية تضيف رصيداً ناصعاً إلى ماضي كل من الحركة النقابية واتحادها العام وحاضرها، والعديد من هذه الشخصيات على حد سواء، فهناك أمثلة كثيرة ومشرفة على العلاقة النضالية المبكرة بين المنظمات العمالية النقابية وقامات وطنية سياسية وحزبية وحكومية انطلقت في تطورها التعليمي والمعرفي ونضجها السياسي وارتقائها الوظيفي والقيادي اللاحق من مكان العمل والكد بين أوساط العمال، وكانت قبل تكليفها بمهام قيادية ومناصب عليا قد تخرجت في مدرسة النقابات السورية، فأغنت تجربتها العمالية والنقابية الالتزامَ الطبقي والوطني لديها وتطوير أدائها المتميز ونجاحاتها في المؤسسات والمواقع الأخرى التي انتقلت إليها.

وكان للنقابات واتحادها العام دور أساسي في توفير فرص الإيفاد بمنح دراسية وأكاديمية لعمال شباب وطلاب أوفدتهم، وخاصة إلى جامعات بلدان المنظومة الاشتراكية التي بنت مع الجامعات السورية الوطنية أجيالاً من الكفاءات والاختصاصيين والكوادر القيادية في ميادين العمل والإنتاج والتنمية البشرية والاقتصادية والتقدم الاجتماعي والسياسي.

هذا الجانب المضيء والمشرف من تاريخ النقابات السورية وإسهاماتها والوفاء المقابل له من قبل الموفدين الخريجين والقادة المخلصين، ذكرتني به مطالعتي منذ أيام لواحد من النماذج الكثر ولما ورد في سيرة المرحوم الدكتور داود حيدو، العامل والأكاديمي والوزير السابق والقيادي الحزبي، وعن جذوره العمالية والنقابية ووفائه وامتنانه لما قدمه إليه وإلى تطوره اللاحق النقابات السورية فيقول: (أدركت أن من واجبي أن أمحو أمية عدد من زملائي عمال كهرباء القامشلي، وكانت تلك أول نواة لمدرسة محو الأمية في القامشلي، وكان لكل ذلك أثره البالغ في فوزي بإحدى المنح التدريبية التي كانت جمهورية ألمانية الديمقراطية قد قدمتها لاتحاد نقابات عمال سورية في خريف عام 1958. سافرت مجموعة عمالية مؤلفة من 60 عاملاً للتدريب التقني، والتحق نحو ثمانية من المتدربين ومنهم أنا بالدراسة الجامعية، طلبت المساعدة لاستكمال الدراسة وحصلت على شهادة الدكتوراه في التخطيط الاقتصادي عام 1967).

يتم استكمال حلقات سلسلة الوفاء بين عمال سورية الوطن ونقاباتها وشعبها، والنقابي الموفد، فتضاف إليهم جامعة البلد الصديق عندما يخاطب نائب رئيس الجامعة في ألمانيا الديمقراطية النقابي الحاصل على الدكتوراه مودعاً له بالقول: (إذا خدمت وطنك بإخلاص وبأقصى طاقتك، تكون قد بررت جهودنا معك وأدخلت السرور إلى قلوبنا).

كان بحق زمناً جميلاً تتألق فيه وصية ملهمة ومخلصة من أصدقاء حقيقيين لسورية، وتتجسد فاعلية النقابات في العلاقات الخارجية، ويبرز تضامن نقابي دولي مع سورية ونقاباتها وابن بار للحركة النقابية يبقى حتى اليوم الأخير من حياته مهموماً بالمحنة في بلاده مسكوناً بالأمل والثقة يتجاوزها وبناء غد أفضل في سورية.

هويته النقابية التقدمية إضافة إلى مبدئيته وأخلاقه العالية حصّنته ضد كل ضيقي الأفق والمتنفيذين والطامعين بالوظيفة الحساسة والمركزية التي شغلها بنظافة متناهية مديراً التجارة الخارجية في وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، فكان رد وزيره آنذاك الدكتور محمد الأطرش على مثل هؤلاء بالقول: (داود إنسان تقدمي ونظيف، وأنا بحاجة إليه والوزارة بحاجة إليه في هذا الموقع بالذات). يؤلمني تأخّرنا في تدوين تاريخ النضالات العمالية والنماذج المتألقة من عمالنا ومراحل تأسيس النقابات في المحافظات وجهود المؤسسين فيها، كحالة العامل والوزير النقابي داود حيدو، وأسجل في البدء تقصيري أنا ابن محافظته وابن الحركة النقابية السورية ومن العاملين المهتمين بأنشطة الثقافة العمالية والنشر أنني لم أساهم بذلك خلال عملي على امتداد ما يزيد عن أربعين سنة في المنظمات النقابية السورية والعربية والعالمية. إننا قصرنا في عملية إغناء التاريخ النقابي بتجارب كهذه ونماذج لعمال ونقابيين وقادة قدمتهم النقابات للوطن والمجتمع. وعلى سبيل المثال لا الحصر يأتي ذكرنا واعترافنا أنه لم يعط النقابي الدكتور داود حيدو حقه في وثائق التاريخ النقابي وهو القائل: (عملي في مهنة الميكانيك قادني إلى العمل على الآلات الزراعية في الأرياف المحيطة بالقامشلي حتى عام .1954. وكان العمل من القسوة والظلم والاستغلال بحيث مازلت نادماً لعدم كتابة مذكرات يومية عن تلك الفترة التي لو تمت لربما أصبحت سجلاً صادقاً عن حياة جيل يبني من الجهة الواحدة نهضة زراعية عمرانية في ريف متخلف ومهمل جداً، ويكتوي من جهة أخرى بمظالمها وحرماناتها.. وعندما توفرت إمكانية تأسيس نقابة لعمال الميكانيك في بداية الخمسينيات اشتركت في تأسيسها مع عدد آخر من العمال، وبقيت منشغلاً في العمل النقابي حتى مغادرتي القامشلي إلى ألمانيا، وعند عودتي واستقراري بدمشق تقربت كثيراً من الحركة النقابية ومارست التدريس لمادة الاقتصاد السياسي في المعهد النقابي المركزي، ومازلت أفخر بصداقاتي مع النقابيين القدامى والجدد).

للأسف لم أطلع إلا مؤخراً على بعض التفصيلات في سجله العمالي والنقابي، خاصة معلومة أن الراحل شارك في حضور المؤتمر التأسيسي لاتحاد نقابات العمال العرب بدمشق عام ،1956 فقد كان وقاره وتواضعه يحرم الكثيرين من أصدقائه والمحيطين به أن يعرفوا إسهاماته وأدواره المتميزة في جميع الحقول النقابية والوظيفية والحزبية والسياسية، وبالمقابل نسجل أسفنا بمناسبة مرور سنة على رحيله ونستميحه وعائلته ورفاقه العذر أنه لم تتح لي سابقاً فرصة الإضاءة على تاريخه وإسهاماته في خدمة العمال والنقابات والوطن.. فاللقاءات العديدة التي جمعتني بهذا الرجل الكبير لم يتطرق فيها يوماً إلى مساهماته هذه كعادته في نكران الذات، رغم تناوله معي بإسهاب التطورات النقابية والاستفسار عن أوضاع كل من الاتحاد العالمي للنقابات وقبلها الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب، بحكم تمثيلي لاتحاد عمال سورية في هاتين المنظمتين، وإشادته بالمقالات والدراسات المنشورة عنهما وقلقه من محاولات الانقضاض على خطهما المبدئي في خدمة قضايا العمال والشعوب وتعزيز التقدم والسلام وحركة التحرر العربي والتضامن الإنساني الأممي.

ولعل التوصيف الأبلغ للخط النقابي المبدئي والوطني الذي ظل ملازماً للراحل حتى آخر رمق في حياته نستدل عليه من كلمة الوداع التي رثاه فيها رفيقه بشار المنير، مشيراً إلى أن في حضرته (تخجل من رفع صوتك، فهو المسالم الرقيق، لكن احذر، فعندما يتعلق الأمر بحرية سورية ومواجهة الإمبريالية الأمريكية ونصرة الفئات الفقيرة وخاصة العمال، فسيعلو صوته وسيحتّد).

ويذكر في مكان آخر كيف نبهه المرحوم داود إلى المحافظة على مضمون التقرير الاقتصادي الذي أعده قائلاً: (انتبه، إنه تقرير اقتصادي سياسي، فحافظ على مضمونه المعادي للإمبريالية وللرأسمالية الطفيلية، وللفساد والفاسدين، وللسياسات الاقتصادية النيوليبرالية، وقوّي ما شئت القسم المتعلق بمطالب الطبقة العاملة).

تحية لذكراك عاملاً ونقابياً وقائداً حزبياً ومسؤولاً ووزيراً ومستشاراً، لم تغادر في أي منها تواضعك ونظافة كفك وقيم الكفاح المخلص من أجل الإنسان العامل والوطن المستقل وبناء المواطن والسياسي النبيل، وسورية في محنتها تحتاج إلى رجال من طرازك، وفي سورية الغالية كنز ثمين من الرجال الرجال.

العدد 1107 - 22/5/2024