العلمانية استجابة حضارية

 تبدو استجابة الفكر العربي المعاصر إزاء المشاكل والأزمات التي يطرحها الواقع العربي متأخرة ومرتبكة وشكلية في غالبيتها، فهي تتخذ صيغ الوعظ أو الوصفات الجاهزة وتارة تلبس لبوس الحلول السحرية، وقليلة هي المحاولات التي تتعامل مع البحث والتنقيب والاستقصاء لاستكشاف الجوانب المختلفة للظواهر دون تبني مواقف مسبقة.

ولعل العلمانية واحدة من أبرز تلك الاستجابات وأكثرها مثاراً للجدل والاختلاف بين المفكرين حول بداية التفكير فيها عربياً، أو استعمال المصطلح للمرة الأولى ودواعي رفع رايتها، حتى أن بعض المفكرين حاولوا تطبيقها، فمنذ دخولها إلى اللغة العربية ثار خلاف حول نسبها، فمنهم من نسبها إلى العلمانية (بالفتح) ومنهم من نسبها إلى العلمانية (بالكسر) فالفرق ليس كبيراً بين الاهتمام بشؤون العالم وشؤون العلم فالمعنيان مكملان أحدهما للآخر ومتلازمان إلا في حال النظر إلى العلم بمعناه الضيق واعتباره عقيدة، فيكون الفضاء المعرفي لنسب العلمانية إلى العالم أكثر دقة. بينما ثار خلاف آخر ليس من قبيل الفتح أو الكسر في فرنسا حول العلمانية المقاومة الصلبة من أبرز دعاتها (ريجيس دوبري) حول استبعاد الدين من الحياة العامة، والعلمانية التعددية المنفتحة التي تتكيف مع التعددية الثقافية المتزايدة في فرنسا والتي تسمح بظهور الدين في الحياة العامة، وأبرز دعاتها هو (جان بوبيرو) الذي شبه العلمانية بمثلث، الضلع الأول خاصته العلمانية عدم تسلط الدين أو أي نوع من أنواع المعتقدات على الدولة أو مؤسسات المجتمع أو الأمة أو الفرد، والآخران من المثلث هما حرية الضمير والعبادة والدين والعقيدة والمساواة في الحقوق بين الأديان، فضلاً عمن قال بالعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (عبد الوهاب المسيري) أو علمانية متطرفة أو معتدلة (فهمي هويدي) وصولاً إلى أن السيد محمد حسن الأمين دعا إلى العلمانية المؤمنة.

مما يعني أن للعلمانية أشكالاً ومسارات تعتمد على الظروف التي نشأت فيها، وليست شأناً ناجزاً أو تام التحقق، بل هي سيرورة تاريخية قابلة للبقاء والتطور مثلما هي قابلة للتراجع والانتكاس، وهذا يتعلق بالحامل الاجتماعي الثقافي المساند أو المعارض لها، وليست بالظاهرة التي يمكن توصيفها ببساطة ويسر، فهي جملة من التحولات التاريخية (السياسية والاجتماعية والثقافية) تندرج في إطار أوسع من مجرد التضاد بين الدين والدنيا، وليس كما هو شائع عند جمهور واسع من الناس الذين اختزلوها إلى التضاد بين الدين والدنيا وألصقوا فيها من التهم الكثير مما لا يدخل في صلبها وروحها من قبيل الإلحاد والتنكر للأديان والكفر البواح والردة والفسق، وكأن من يرفع شعار العلمانية يشارك بثورة ضد الإرادة الإلهية، حتى من ترجمها إلى العربية بـ (إقصاء الدين عن الحياة) خدم هذا المعنى،  بينما تعني بالإنكليزية (حرية التدين وحياد الدولة) مما يجعلها تندرج في إطار أوسع وتنطوي على عدة أوجه:

وجه معرفي يتمثل في نفي واستبعاد الأسباب الخارجة عن الظواهر الطبيعية والتاريخية (الميتافيزيقيا).

وجه مؤسسي يتمثل بالنظر إلى المؤسسة الدينية مؤسسة مستقلة تضم العبادة وأنظمتها ومستلزماتها بعيداً عن برغماتية السياسة.

وجه سياسي عزل الدين عن السياسة.

وجه أخلاقي ربط الأخلاق بالتاريخ والضمير..

لقد وجهت للعلمانية جملة من الانتقادات كونها تنزع القداسة عن من لا قدسية له، وترفض التصور السلفي الذي لن يؤدي إلى حل مشكلات المجتمع، وتؤمن بأن الصراع الاجتماعي يجب أن يكون على أرض بشرية دون الاستناد إلى مرجعية سماوية تلغي شروط الصراع ومن أبرز هذه الانتقادات:

1- العلمانية خاصية أوربية: ظهرت في أوربا كتعبير عن ضرورة تاريخية مرتبطة بالظروف الخاصة، وأن تبنيها محاكاة ببغائية تنم عن انعدام الشخصية، فهي ليست سبيلاً إلى التقدم ومواجهة التخلف. يرى محمد عبارة (أن المستغربين استعاروا مشكلة أوربية كي يستعيروا لها حلاً أوربياً) وهذا مفهوم سطحي للعلمانية.

2- إن عبارة (الإسلام دين ودنيا) هي الأساس الذي يستند إليه نقاد العلمانية، فالدين الإسلامي خلو من المؤسسة الدينية ورجال الكهنوت، فالدعوة إلى الفصل بين الدين والدولة دعوة مستوردة غربية ومؤامرة على الإسلام فيها إقصاء للشريعة والاستعاضة  عنها بالقوانين الوضعية.

3- القول بالعلمانية لا يعني تجاهل التراث، ويمكن للعلمانية أن تتطور إلى جانب التراث ولا يوجد تعارض بينهما- كما يحلو لنقادها- لأن قوام العلمانية يرتكز إلى القيم العقلية والتمسك بالمنطق واستقلال الفكر لممارسة النقد والتحليل، وهذا له تاريخ في الحضارة العربية قديماً وحديثاً فلا يمكن أن نستبدل الماضي بالحاضر، كالسلفية، ولا طلب الاقتداء بالغرب كنموذج أمثل، فلا تفريط بين العام والخاص بين الداخل والخارج.

إن الانتقال إلى العلمانية المنفتحة تشكل موقفاً شاملاً ومتماسكاً حول الإنسان والدين والمجتمع، تفسح المجال للتمايز والتنوع وترتكز على العقل والحرية، وتكون ضرورية كلما نشب الصراع بين استقلالية الفكر وخضوعه، فما هي أبرز الخصائص الأساسية التي تشكل قوام هذه العلمانية وضرورتها؟

1- إن التركيبة الفسيفسائية للمنطقة العربية من حيث تعدد الملل والنحل والطوائف والأديان والمذاهب أريد لها أن تكون كنقط الماء والزيت والنفط غير قابلة للاندماج، بينما العلمانية تشكل الحاضنة الرئيسية لهذا التنوع كي لا يبدو التنوع حرباً أهلية، فهي تمتلك القدرة الاستيعابية لجميع مكونات المجتمع وتشكل مرجعية محايدة للحوار وتوفر أرضية للمصالح المشتركة والحلول العابرة للخصوصيات الدينية بغية إيجاد المخارج لمنع الانفجار وامتصاص الصدمات والهزات التي تعصف بالمجتمع في إطار المساواة والعدالة والقانون.

2- الحياد الإيجابي للدولة بأجهزتها وأدواتها وممثليها ومؤسساتها، فالدولة لجميع مواطنيها وتقف على مسافة واحدة إزاء الأديان والمذاهب والطوائف والمؤمنين وغير المؤمنين، تعمل على تنظيم الاختلاف وتبني الحوار وتطبيق القانون، فهي دولة الخيارات الحرة وتتبدى هذه الخاصية أثناء غياب الدولة في فترة الحروب الأهلية حيث يتغول طرف أو مذهب على آخر بالعنف والإقصاء.

3- المساواة بين جميع المواطنين ذكوراً وإناثاً أمام القانون وتكافؤ الفرص والحقوق والواجبات بغض النظر عن قناعاتهم الدينية وانتماءاتهم المذهبية، فالوطن للجميع مثلما الجميع للوطن فالمواطنة هي الأساس في العلمانية، ويستمد الإنسان قيمته من انتمائه الوطني، لا الديني، فالعلمانية تحول الانتماءات الفرعية من عبء ومشكلة وخلطة متفجرة تهدد الوحدة الوطنية والسلم الأهلي والعيش المشترك إلى رصيد غنى وتنوع ثري، وهذا يتعارض مع الإسلام السياسي الذي جعل الانتماء الوطني أدنى من الانتماء إلى حدود العقيدة، وبهذا المعنى فإن العلمانية تصبح ضرورة حضارية اجتماعية سياسية وحاجة دائمة وليست ردة فعل على الظلامية، لأنها تفرض نفسها على كل مجتمع مهدد بطغيان التعصب الديني وقولبة التفكير بعيداً عن التساؤل البحث والنقد.

وإذا كان مفهوم العلمانية مرتبطاً بالتجربة فإن الواقع العربي أغنى من المفهوم وليس من الممكن تطبيق أي مفهوم على مجتمع دون نقده، فلا بد أن تكتسي العلمانية في بلادنا بألوان البيئة والواقع بعيداً عن المفاهيم المجردة من خلال:

1- إن للدين مكانة وجدانية وعاطفية في بلادنا، فضلاً عن الحضور الاجتماعي، فلا يمكن فصل الدين عن المجتمع أو التقليل من دوره في حياة الناس أو إضعاف مكانته في منظومة القيم الأخلاقية والسلوكية، ولكن العلمانية تجعل منه خياراً فردياً كعلاقة شاقولية بين الفرد وخالقه دون مطّ هذه العلاقة أفقياً وفرض الخيارات الدينية على الآخرين.

2- عدم المواجهة بين العلمانية والدين بالرغم من أن لكل فضاءه وحقله، فيمكن أن يتعايشا ويتفاعلا، فالعلمانية لا ترفض الدين، وإنما ترفض الثوب التنكري له كما ترفض الفهم الأصولي له والفكر الديني المغلق المتعصب الجامد الذي يمثله الإسلام السياسي، مثلما ترفض توظيف الدين لأغراض السياسة ولإضفاء الشرعية على من لا شرعية له فالتشدد العلماني يحرمنا من المتدينين مثلما التطرف الديني يحرمنا من العلمانيين وأي مواجهة بينهما هي مواجهة مزيفة تمثل انحرافاً عن الصراع الحقيقي وانتحار لكليهما.

3- إن تحويل العلمانية إلى عقيدة جامدة وصلبة ومقدسة تفقدها صفتها العلمية كما أن تحويل العلمانية من ضرورة تاريخية إلى وصفة جاهزة لحل المشاكل تفرض بإرادة خارجية أو بقرارات فوقية وأوامر سلطوية (كمال أتاتورك) دون تبني هياكل اقتصادية وثقافية وحوامل اجتماعية يؤدي إلى تفجير الإحساس بالهوية والتراث وتبقى قشرة سطحية هشة قابلة للاهتزاز في أي لحظة.

إن تعميق البعد الديموقراطي للعلمانية بما ينطوي عليه من تعددية واعتراف بالآخر وحق التمايز والاختلاف يشكل أعمق مضامين العلمانية المنفتحة لإيجاد المخارج الموضوعية لأزمات المجتمعات العربية.

العدد 1105 - 01/5/2024