رفقاً بشرقيتنا!

في تقرير لمنظمة العمل الدولية حول الأجور والرواتب نشر مؤخراً، تؤكد المنظمة أن الفجوة الأكبر في الأجور بين الرجال والنساء موجودة في الولايات المتحدة الأمريكية وتصل إلى 36%، إذ تتقاضى المرأة ما معدله 64 دولاراً مقابل كل 100 دولار يحصل عليها الرجل، كما ورد في التقرير أن المشكلة ذاتها تعاني منها النساء في 26 دولة أوربية بنسب متفاوتة.

هو وجه من وجوه التمييز ضد المرأة في تلك المجتمعات التي طالما اعتبرت نموذجاً يحتذى في تطبيق مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، هذا الرقم الإحصائي الصريح يؤكد أن قضية ظلم المرأة هي قضية ذات طابع عالمي تعاني منها أكثر المجتمعات تحضراً ورقياً وتعمل على معالجة مظاهرها، فإذاً..مظلومية المرأة ليست سمة يختص بها المجتمع (الشرقي) كما يطيب لجلّ الخائضين والخائضات في هذا الشأن ترويجه بدوافع شتى، لعل أبرزها ذاك الانبهار الأعمى بالغرب وكل ما يمت إليه بصلة، حتى جعل بعض هؤلاء من كلمة (شرقي) تهمة يجب دفعها أو مذمّة ينبغي التبرؤ منها.

ففي مقالة نُشرت مؤخراً في إحدى صحفنا الرسمية اختارت إحدى كاتباتنا مقاربة الموضوع من باب معاناة المرأة السورية تحت وطأة الحرب، تحدثت بحرقة وألم عن السبايا والمغتصبات والثكالى والأرامل والمرجومات والمقطّعات إرباً، لتوجه الإدانة نهاية إلى مدان واحد لا شِفع له ولا شفيع: الذكر الشرقي المعمّم بعمامة جده.. فالذكر يغتصب.. الذكر يزني.. الذكر يقتل.. الذكر يسرق الدولة ويسرق راتب زوجته أيضاً، أما الرجال الذين يبذلون الدماء دفاعاً عن الوطن فلا ترى فيهم سوى أنهم أكباد نساء يتألمن لفقدهم!! وكأن الأبناء ملكية حصرية للمرأة لا علاقة بهم للرجل المجرد من الكبد والقلب! أو كأن الموت الذي يواجهه الرجال على خطوط النار هو ترف رجولي لا منّة فيه ولا فضل!

لا أحد يقول إن الوقت غير مناسب لطرح قضية حقوق المرأة بذريعة أن الزمن زمن حرب، فدائماً الوقت مناسب للمطالبة بالحقوق، والمتابع لصحافتنا المحلية وبرامجنا التلفزيونية والإذاعية قبل الأزمة وخلالها يلمس ولا شك مدى المساحة المفردة للحديث عن (ملابسات) هذه القضية وأبعادها، ولكن من غير الإنصاف تجاهل أو إنكار المكتسبات التي نالتها المرأة السورية خلال العقود الماضية قياساً إلى مثيلاتها في الكثير من دول العالم، وزخم حضورها في شتى المجالات ينبئ بجلاء عن هذه الحقيقة، ومن غير الصواب حرف البوصلة عن وجهتها وخلط القضايا بعضها ببعض تعسفاً، ثم كيل الاتهامات جزافاً بتعميم ظالم غير مبرر، فالقضية أجلّ من أن نعالجها بـ(فشّة خلق) قد تكون ناجمة عن ردة فعل عاطفية مشروعة إزاء حالة ما، القضية ليست قضية رجل في مواجهة امرأة، إنها قضية وطن مهدد في صميم وجوده وكينونته، برجاله ونسائه وأطفاله.. ببشره وشجره وحجره.. وأهوال الحرب انصبت على رؤوس الجميع دون استثناء عرق أو جنس أو صنف أو فئة، وأما الانتهاكات التي تعرضت لها المرأة السورية فقد أدمت قلوب الرجال وجرحت كبرياءهم واستفزت كراماتهم، وغالباً ما كانت الشرارة التي أججت فيهم إرادة القتال والصمود في وجه من ارتكبوا هذه الفظائع التي لا يبيحها دين ولا يقرها تشريع ولا قانون ولا تستند إلى أي عادات وتقاليد. 

وتجنباً للوقوع في فخ التعميم المشار إليه أعلاه لا بد من الإشارة إلى وجود نمط آخر من الخطاب الأنثوي يتناول قضايا المرأة من منظور مغاير، بعض هذا الخطاب العقلاني يومض بين الحين والآخر كاشفاً عن فكر موضوعي بعيد كل البعد عن المواقف المتشنجة المسبقة.

 فحين نقرأ مقالة بقلم أنثوي بعنوان لافت: (عنف النساء ضد النساء) ونتمعن في مضمونها لا نملك إلا الإقرار بشفافية الطرح وموضوعية الخطاب، بحيادية تحسب لها و وجرأة تحسد عليها. تقول الكاتبة في مقالتها المنشورة في جريدة (النور) بتاريخ 3 كانون الأول 2014 في صفحة (شباب ونساء): (حددت الكثير من الأيام والمناسبات للوقوف في وجه العنف ضد النساء ومناهضة التمييز ضدهن إلا أن الملاحظ في معظمها هو تضمين تهمة ممارسة العنف وإلقائها على الرجال والمنظومة الدينية في المجتمع، ولكن ما يتوجب البحث فيه هو تمثّل جزء مهم من نساء المجتمع لهذه المنظومة وتكريسها وممارسة العنف على بنات جنسهن)،ثم تورد الكاتبة آراء وشهادات بعض النساء في هذا الشأن، فلا تجد إحداهن حرجاً من التصريح بجرأة:(لطالما فضّلت أن يكون مديري في العمل رجلا  وليس امرأة لأنه أكثر تفهماً واحتراماً لظروفي). ثم تتساءل الكاتبة: كيف تمارس امرأة عانت تمييزاً وعنفاً بسبب جنسها العنف نفسه على ابنتها؟ وهل ممارسة العنف ضد زوجة الابن مثلا  له مبرراته؟ وكيف بممارسة العنف ضد زميلاتها في العمل؟ أهي الغيرة؟ مشاعر النقص؟ ضعف الثقة بالنفس؟ لتختم نهاية بنتيجة لا جدال حولها: (العنف ثقافة تتشربها الذات من خلال التربية، ولمناهضته ورفضه لا بد من تربية عميقة تسانده وتدعمه).

هذه الآراء الصادرة عن نساء شرقيات نشأن وترعرعن في كنف المجتمع الشرقي، تؤكد شدة حاجتنا إلى الاستطلاعات والدراسات العلمية المنهجية التي ترصد واقع المرأة السورية بموضوعية وترسم من خلال الأرقام الإحصائية الدقيقة صورة شاملة متكاملة عن هذا الواقع بسلبياته وإيجابياته.

بمثل هذا الخطاب المتزن وبامتلاك مثل هذه الأدوات يمكن الوصول إلى النتيجة المرجوة، وأما الخطابات الموغلة في الشكوى والندب والانكسار، المشحونة بالمواقف الحادة المسبقة، فلن تؤدي إلا إلى تشتيت الجهد المطلوب لمعالجة قضية اجتماعية بهذه الأهمية، فالقضية هي قضية ثقافة وتربية في المقام الأول، وكل من هزّت مهداً بيمينها تدرك محورية دورها في هذه المهمة النبيلة، وتعي قيمة ومعنى هذا الامتياز الأزلي الذي لا يمكن لأحد انتزاعه منها، وتدرك أيضاً سرّ وجودها وراء كل رجل عظيم.

العدد 1107 - 22/5/2024