لماذا كان ماركس محقـاً؟! (36)

 كان ماركس مثقفاً ثقافة عالية وفق تقاليد أوربا الوسطى، وكان يتوق إلى الانتهاء أخيراً من هذا (البراز الاقتصادي)، كما قال مرّة باستخفاف عن كتاب (الرأسمال)، حتى يستطيع التفرّغ لكتابة دراسته المخطط لها عن الشاعر الفرنسي بالزاك. ولأسفه الشديد، ولربما من حظّنا، أنه لم يستطع تحقيق ذلك.

وقال مرّة بأنه قد ضحّى بصحته وبسعادته في الحياة وبعائلته من أجل تأليف (الرأسمال). إلا أنه كان عليه أن يكون كـ(الثور)، فيما لو أدار ظهره لعذابات الإنسانية. كما استنتج مرّة أخرى أ ن لا أحد كتب عن المال الكثير، وامتلك منه القليل، مثلُه. كان إنساناً متيّماً بالإنسانية، ساخراً صاحب نكتة، ذا فكرٍ جامح، ممتلئاً حماسة وعبقريّة ومحباً للجدال السياسي، لم يستسلم أمام الفقر المدقع والمرض المزمن. كان بالطبع ملحداً، لكن ليس على الإنسان أن يكون متديّناً، حتى يكون روحانيّاً.

فيما يخص الدين، يكفي أن نشير إلى أن هناك ماركسيين يهوداً وماركسيين مسلمين وماركسيين مسيحيين اعتنقوا ما يسمى نظرية التحرّر. وهم ماركسيون بالمعنى الماركسي للكلمة. وقد أخبرتنا إليانور ابنة ماركس أن أباها قال مرّة لأمها بأنها إذا كانت تبحث عن إرضاءٍ لميولها ماوراء الطبيعية (الميتافيزيقية)، فستجد ذلك لدى الأنبياء اليهود أكثر مما تجده لدى الجمعية العلمانية التي كانت تزورها أحياناً (الجمعية العلمانية) جمعية بريطانية كانت تنادي بفصل الدين عن الدولة، (إضافة من المترجم).

ليست الماركسية مجموعة أقوال عن الكون، من قبيل: كلُّ شيء يتألف من (ذرات) أو (لا وجود للرب)، وإنما هي نظرية حول سلوك حيواناتٍ عبر التاريخ.

كان ماركس بموجب التقاليد اليهودية مفكّراً أخلاقياً بارزاً، وقد خطط لتأليف كتاب ليس فقط عن بالزاك وإنما أيضاً عن علم الأخلاق، بعد الانتهاء من (الرأسمال). هذا ما استوجب الذكر ردّاً على الرأي المتحيّز القائل بأنه كان إنساناً لا أخلاقياً معدوم الإحساس، نظر إلى المجتمع من زاوية علميّة صرفة. لم يكن ذلك ممكناً بالنسبة لإنسان كتب عن المجتمع الرأسمالي أنه (قادر على تمزيق جميع الروابط الإنسانية بين البشر وإحلال الأنانيّة وحب المصلحة الذاتية محلَّها، وتفكيك عالم الإنسان إلى عالم مؤلَّفٍ من أفراد متنافرين كالذرات، بعضهم معاد للآخر. لقد آمن ماركس بأن الأخلاق السائدة في النظام الرأسمالي: لا أقدِّمُ لك خدمة، إلا إذا ربحتُ من ورائها، طريقةُ عيشٍ دنيئة. نحن لا نعامل أصدقاءنا أو أولادنا بهذه الطريقة، فلماذا علينا أن نعتبر ذلك في المجال العام تعاملاً طبيعياً مع الآخرين.

صحيح أن ماركس غالباً ما انتقد الأخلاق، ولكنه قصد بذلك تلك النظرة التاريخية التي تهمل العوامل المادّية لصالح العوامل الأخلاقية. والتسمية الصحيحة لهذا الموقف ليس الأخلاق، وإنما المذهب الأخلاقي. فهذا المذهب يستقي من مجمل العلاقات التاريخية ما يسمى بـ(القيم الأخلاقية) بهدف إصدار أحكام أخلاقية مطلقة بعد ذلك. أما وجهة النظر الأخلاقية الحقيقية، فتقتضي، على العكس من ذلك، أخذ جميع العوامل المحيطة بحالة إنسانية مّا بنظر الاعتبار. وهي تتفادى فصل القيم والسلوكيّات والعلاقات والخصال الشخصية عن القوى الاجتماعية التي خلقتها وطبعتها بطابعها. وبذلك تتفادى التمييز الخاطئ بين الحكم الأخلاقي والتحليل العلمي، إذ لا بدّ من أخذ جميع العوامل ذات الصلة إلى أقصى حدٍّ ممكن بنظر الاعتبار، من أجل الوصول إلى حكمٍ أخلاقي سليم. وبهذا المعنى، كان ماركس أخلاقياً كبيراً وفق تعاليم أرسطو، وإن لم يدرك دائماً أنه كذلك. علاوة على ذلك، اعتقد ماركس وفق تعاليم أرسطو العظيمة أن الأخلاق لا تعني، بالدرجة الأولى، احترام القوانين وتأدية الواجبات واتباع القواعد وتجنّب المحرّمات، وإنما تعني السعي إلى حياةٍ حرّة قدر الإمكان تستجيب للرغبات وتنمّ عن تقرير المصير. كما عنت الأخلاقُ عنده أخيراً أن يكون الإنسان فرحاً وسعيداً. وبما أن الإنسان لا يعيش وحده، فلا بد من أن تشمل الأخلاقُ السياسة أيضاً. ولم ير أرسطو غير ذلك.

يتعلّق الروحاني إذاً بالفعل، بالعالم الآخر. إلا أنه ليس الآخرة التي يتحدّث عنها رجال الدين، وإنما العالم الذي يأمل الاشتراكيون في بنائه ليحلَّ أخيراً محلَّ العالم الراهن الذي تجاوز حتماً تاريخ صلاحيته. وكلُّ واحدٍ منّا لا يتوجّه إلى الآخرة بهذا المعنى، لم يستوعب، بصراحة، ما يجري حوله.

تأليف: تيري إيغلتون

العدد 1105 - 01/5/2024