من الغباء الاستراتيجي إيقاظ الدبّ الروسي

د. نهلة الخطيب:

إلحاق أوكرانيا بحلف الأطلسي لتصبح روسيا في متناول الصواريخ الغربية والأمريكية دفع بوتين إلى الحرب، ربما أساء التقدير حين اعتبر أن الدخول إلى كييف لا يستغرق سوى أيام، دون الكشف عن الفخ الأمريكي والبريطاني، لجرّه إلى حرب استنزاف، وإذا كان المستنقع الأفغاني قد أدى إلى تخلّل الاتحاد السوفيتي، لابد للمستنقع الأوكراني أن يودي بروسيا، دون إدراك العلاقة العضوية والبيولوجية بين أوكرانيا وروسيا.

زيلنسكي ينسحب البساط من تحت رجليه والكابوس هو حرب غزة، اهتمام أمريكا بأوكرانيا تراجع، وتراجعت معه المساعدات بشكل كبير، ولكن الأنظار تعود ثانية إلى حرب أوكرانيا في أسوأ هجوم تشهده موسكو منذ زمن.

الهجوم الإرهابي الذي طال مركز كروكوس في موسكو، راح ضحيته عشرات القتلى والجرحى، نفذته داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، وتبنّته في بيان صادر عنها، وجاء في البيان محاولة لتبرير الهجوم، (أنه يأتي في السياق الطبيعي للحرب المشتعلة بين الدولة الإسلامية، والدول المحاربة للإسلام)، واتهم الكرملين بأن يديه ملطختان بدماء المسلمين في أفغانستان والشيشان وسورية. لم تحرك داعش حربُ الإبادة الجماعية على غزة، أو الاعتداء على المسلمين حسب مفهومها الإيديولوجي، ولم يصدر أي فعل تجاه المصالح الأمريكية والغربية، مما يثير عدة تساؤلات: من يقف وراء مخطط كهذا؟!

إبان الحرب الباردة بدأت أمريكا وبريطانيا بتصوير الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، أنه صراع بين الإيمان والالحاد، فنجحت في تجييش الحركات الجهادية الإسلامية في مختلف بقاع العالم، وخاصة في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي (الملحد)، ولا يخفى على أحد دور الاستخبارات البريطانية في إنشاء تنظيمات دينية وطائفية في الدول التي تستعمرها، وهو دور اتسع مع أمريكا واستمر مع البريطانيين، وهو ما أشار إليه المندوب الروسي في مجلس الأمن، والمفترض أن هذه الجماعات تستخدم كأدوات غربية، باعتبارها صنيعة العديد من أجهزة الاستخبارات في العالم أمريكا وبريطانيا وتركيا وقطر، وأطراف أخرى فاعلة بعد الحرب الباردة، وهناك اعترافات أمريكية بوجود يد لها في نشأتها، للعبث بوحدة الدول واستقرارها، وهندستها جيواستراتيجياً، وفقاً لاعتبارات إثنية، وعلى أسس جيواقتصادية.

لحظات حرجة لروسيا ولأوكرانيا ولدول العالم، التي سارعت إلى التنديد بالإرهاب، في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، بوتين أعلن أنهم المتطرفون الإسلاميون، ومن المستفيد؟! موجّهاً أصابع الاتهام إلى أوكرانيا ودول غربية داعمة لها، وتوعد بمحاسبة المتورطين، روسيا مقتنعة أن أوكرانيا ستدفع الثمن، لتكون بمثابة إعلان حرب مفتوحة، أعلنها ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين، هذه الحرب ستبدأ بهجوم روسي شامل خلال الشهرين القادمين، ستحدد مستقبل روسيا في السنوات المقبلة.

من اللحظة الأولى يعرف الغرب أن روسيا ستتهم أوكرانيا، ولكن البيت الأبيض أصدر تبرئة كاملة للطرف الأوكراني بلسان ناطقه جون كيربي: (أنه لا يملك مؤشرات إلى تورط أوكرانيا في الهجوم). ماريا زاخاروفا المتحدثة باسم الخارجية الروسية، انتقدت البيانات التي صدرت من أمريكا عقب الحادث بساعات لتبرئة أوكرانيا، (لا أستطيع تصنيف هذا بأي طريقة أخرى، هو بحد ذاته دليل). فالشبهات تكاد تكون مؤكده بحق الغرب الذي يستخدم هذه الجماعات في تنفيذ إرهابه، زاخاروفا تقول: (يبدو لي أنهم قادوا أنفسهم إلى طريق مسدود تماماً، لأنه بمجرد أن بدؤوا بالصراخ إنهم داعش، ولكن من داعش؟!)، وختمت بقولها: (إذاً أنتم وراء داعش، أنتم الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، خلقتموها بأنفسكم).

رئيس جهاز الأمن الفيدرالي الروسي ألكسندر بوتنيكوف اتهم واشنطن ولندن وكييف بالوقوف وراء هذا الاعتداء بقوله: (نعتقد أن الأمر تم التحضير له من جانب متطرفين اسلاميين، وسهلته أجهزة استخبارات غربية والاستخبارات الأوكرانية لديها صلة مباشرة بالأمر)، بهدف تشتيت الانتباه عن التطورات على جبهة أوكرانيا، والانتصارات التي يحققها الجيش الروسي، والهزيمة الاستراتيجية للغرب. الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش يرى أن بيان السفارتين الأمريكية والبريطانية في موسكو دليل على أن استخبارات هذين البلدين كانت تمتلك معلومات حول الهجوم الإرهابي في موسكو، ويتوقع اشتداد العمليات القتالية في اوكرانيا، واقتراب نزاع على المستوى العالمي.

توقيت الهجوم بالغ الحساسية وتزامن، أولاً، مع فوز بوتين (كصورة عن بطرس الأكبر)، بالانتخابات لولاية رئاسية خامسة، تبلورت ملامحها وتحددت بعنوان (تحقيق الانتصار في أوكرانيا وعليها)، وهزيمة محاولات الغرب محاصرة روسيا وإذلالها، والرهان الأمريكي على تدمير الاقتصاد الروسي مما يطيح ببوتين، وأعلن ميدفيديف قبل أيام من بدء الانتخابات، برنامجاً رئاسياً من سبع نقاط عنوانه (الصيغة الروسية للسلام في أوكرانيا)، جوهره ضم أوكرانيا إلى روسيا، طالب فيه الأمم المتحدة بتجريد أوكرانيا من جميع صفاتها القانونية، وحل جميع السلطات الدستورية فيها، وإجراء انتخابات برلمانية (لإقليم أوكرانيا) متمتع بالحكم الذاتي، وإعادة توحيد أراضي أوكرانيا مع روسيا.

وتزامن ثانياً، مع تحذيرات السفارة الأمريكية والبريطانية التي تواترت خلال الأسابيع الماضية قبل الانتخابات بيومين، إذ أصدرت السفارة الأمريكية تحذيراً غير عادي للرعايا الأمريكيين، جاء فيه: (السفارة رصدت تقارير مفادها أن لدى المتطرفين خططاً وشيكة لاستهداف تجمعات كبيرة في موسكو، بينها حفلات موسيقية، وأن المواطنين الأمريكيين يتعين عليهم تجنب التجمعات الكبيرة في الـ48 ساعة المقبلة). تبعه تحذيرٌ مماثل صدر عن مكتب الشؤون الخارجية البريطاني، وأوصى بالامتناع عن السفر إلى روسيا. وكانت المخابرات الأمريكية قد حذرت روسيا قبل أشهر، أن داعش تخطط لتنفيذ هجمات إرهابية في روسيا ارتفعت إلى مستوى التحذير، ولم تقدم أية تفاصيل أخرى، وأكد كيربي (أنه لا يستطيع حتى الآن تحديد مدى الارتباط بين تحذير السفارة الأمريكية، والهجوم على قاعة كروكوس).

ثالثاً، تزامنت مع اجتماعات لحلفاء أوكرانيا، تعهدوا بها بزيادة الدعم وإرسال قوات لمحاربة روسيا في أوكرانيا، وتصريحات بريطانية بشأن إرسال مدربين إلى الأراضي الأوكرانية والذين سيكونون هدفاً للقوات الروسية، حسب ميدفيديف.

داعش مجرد أداة وحلقة في لعبة معقدة تشير إلى حجم ما تتطلبه المواجهة من جهود وأدوات، وهي باتت قريبة أكثر مما تتصورون، الباحث الاقتصادي الأمريكي جيمس غالبريث آخذاً على بايدن الغباء الاستراتيجي، (حين أيقظ الدب القطبي من البيات الشتوي).

العدد 1105 - 01/5/2024