مدينة الأحلام

ياسمين أبو ترابي:

كلّ يومٍ لنا بداية جديدة، لنا محاولة في ردم هوّة الغياب، أو كسر قيد من يأس. في كلِّ ليلة لنا طريق نقطعه بالحرف وإنْ غلبنا الصمت وتمكّنتْ منّا العزلة. في كلِّ شوقٍ لنا بابٌ إنْ لم نطرقهُ خذلتنا أصابع اليد ووقعنا في دوامة الندم على ما فات، ولنا عين واحدة وقلب واحد لنا حكاية وجبَ علينا إتمامها ولو بمنزلة الخيال.

هُنا تبدأ حكايات الأحلام وتنتهي، مدينةٌ كبيرةٌ فيها العديد من المنازل ولا يطرق أبوابها إلّا من استوحى معنى كلماتي هذه.

الأبواب تُفتح كل صباح وكأن هذا الباب عالم من الأساطير الملحمية المُجسّدة على شكل هيكل من هياكل القصص والروايات، والأبطال يحجزون أماكنهم، وينتصبون بأقدامهم على خشبة المسرح.

هذه المدينة تُفكّر بأفضل ما لديها من أمل، فأصبحتْ الأشياء قيثارة تلمع كألماس مصقول من ذهب، وكل تلك الأشياء لها هدف واحد وهو تصديق رؤيا الحلم.

كل حي من أحياء هذه المدينة يروي قصة كلّ مواطن يعيش فيها. ربمّا ليس اليوم، ولكن أرى هذا في زاويةٍ ما، سأصبح ما أريد وأجلس على ذاكَ العرش، لقد أخذني القدر برياحهِ المسمومة وتعثّرتُ عدّة مرات، فاستغرقت من عُمري عُمراً إضافياً كي أرمّمَ نفسي من الهلاك، وأستجمع قواي وأثبّت قدمَيّ عند تلك الحفرة كي أقفز من فوقها لأخبرها بأنني ما زلت حيّة ملوثة من طين البشر، وأن أحلامي مرتبطة بشوارع الياسمين العتيقة، بأضواء الطرقات المتوّهجة برائحة المطر المُبلّلة على الأرض.

لقد سمعت هذا من أحدهم: (إن كنت تريد الوصول إلى مبتغاك، فلابدّ أن تخضع لصوت قلبكَ أولاً، فالقلب كفيل أن يرى مشاعركَ).

طموحي المجنون دفعني إلى الأمام، لا أتوقف فقط عند شغف الكتابة، بل اقتحمت الزوايا كلّها لدرجة الشراسة، فأنا وعدت نفسي، والوفاء بالوعد شيمتي.

سنكتبُ ونسافر عبرَ الغيوم بطائرات وردية، فمدينة الأحلام تُغرّد كالطيور وتغيب دهراً لحزنها، لكنّها تُتلو علينا أجمل الأغاني بصوت الشحرور العندليب. فنحن لم نُخلق لنفشل، لم نُخلق كي نسقط، نحنُ خُلقنا لنڪون عظماء، لنڪون أسياد أحلامنا، لنراها واقعاً يفرحنا.

فكم سنعيش بعدُ في هذه الحياة!؟ لن نعيش إلاّ ما قدّره الله لنا، الكثيرون في حياتنا يحاولون أن يسرقوا آمالنا، ويقتلوا طموحنا، يُحطّموا إلهامنا، يهدموا مبادئنا، وكأنّهم مقبرةٌ جنيّة لأحلامنا، إنهم أعداء أخرجتهم علينا الحياة ليكونوا لنا بالمرصاد، يترصدون كل عثرة نسقط فيها، ينتظرون فشلنا وسقوطنا في دوامة الفشل والانكسار، يترقبون لحظات الألم التي سنعيشها، يريدون لنا أن نستسلم لذلك الواقع المرير، يريدون لنا أن نرفع الراية البيضاء ونستسلم لعباراتهم الساخرة والمُستهترة بقدراتنا، يقللون من شأننا فيحاولون لمس شعورنا بالنقص الذي يحملونه في داخلهم الهش.

لقد أخذتني العاصفة ورمت بي هُنا وهُناك، حتى زرتُ أماكن لا تشبهني ولا أريد أن أكون فيها، لا أريد الضعف ولا أريد الفشل، لا أريد السلطة على بحر من القسوة التي تفرض عليّ وكأنّها الحياة التي يجب أن أعيشها. أريد أن أصنع معجزة في مكاني الذي يشبهني والذي أؤمن به، المكان الذي يُعلمني الحب وقيمة ذاتي ومعنى الحياة، حتّى أجرؤ على الاعتراف لنفسي أولاً بأنني وصلت إلى ما أبحث عنه في ظلِّ عاصفة هذا الزمان.

كل واحد منّا هو بطل روايتهُ، أمّا عني أنا، فأنا بطلة هذا السيناريو، سأكتب قصة فشلي وسأدوّن كيف قادني طموحي لكي أصبح ما أنا عليه الآن. (فلا الرحلة ابتدأت ولا الدرب انتهى).

فتلك العبارة تترجم مشاعري لأنها أصدق عبارة تسمعها أُذناي، وأعظم شعور يشعر به الإنسان..

(الأحلام خُلقت كي تتحقّق).

العدد 1105 - 01/5/2024