حروب الجيل الرابع… سورية والصمود الأسطوري

ألحقت الحرب العالمية الثانية بالبشرية ويلات كبيرة وتدميراً هائلاً في المدن والاقتصاد والبنى التحتية، وزادت الخسائر البشرية عن خمسين مليون قتيل ومئة مليون جريح، ومن نتائجها كانت هزيمة النازية وسقوط الإمبراطوريات القديمة الألمانية واليابانية والإيطالية، وتشكل نظام دولي جديد تمثّل بالنظام الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، والنظام الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي
وساد بين هاتين القوتين حرب بادرة وسباق للتسلح استمر حتى عام 1991. وقد وصلت الأمور بينهما إلى حافة الهاوية أكثر من مرة وكادت أن تقع مواجهة نووية. بعد ذلك اختفى الاتحاد السوفييتي، وبقيت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة التي أخذت على عاتقها قيادة العالم وتطبيق سياسة القطب الواحد، هذا النظام الذي أرادت من خلاله الهيمنة على العالم بسلطة مطلقة على ظهر الكوكب، وتحقيق ما أطلق عليه مشروع القرن الأمريكي الجديد، فقادت حرباً تقليدية، عن طريق التدخل بالشؤون الداخلية للدول رغم التكلفة العالية لهذه الحروب التي تعتمد على المواجهة بين جيوش متحاربة.
ومنذ عام 1989 عملت الولايات المتحدة على وضع استراتيجية جديدة جوهرها النفاذ إلى داخل مجتمع الدول أو الدولة السمتهدفة، لإدارة المعركة داخلها، تستخدم فيها ما يمكن تسميته بالحرب الناعمة أو  الحرب بالوكالة، بالتأثير التدميري على عقول صناع القرار السياسي، واستخدام كل أساليب الحرب النفسية للنفاذ إلى عقل المجتمع المستهدف، من خلال تشكيكه بثقته وإحداث انقسامات وصراعات داخلية تؤدي إلى تفكيكه والوصول إلى حالة عدم الثقة بالنفس وبالسلطة التي تحكمه
واستهداف الثوابت الوطنية والقيم الروحية والأخلاق العامة، وصرف الأنظار عن كل ما هو وطني، والولاء قبل شي للأنانية والنرجسية والمصلحة الشخصية المطلقة، بشعارات القيم الإنسانية العامة. والهدف من وراء ذلك هو تحويل الدولة المستهدفة إلى دول فاشلة تتسم بعدم الوضوح بين الخطوط الفاصلة بين الحرب والسياسة، وتتصف هذه الحرب القائمة
أو ما يسمى بحروب الجيل الرابع بالإرهاب والتظاهرات تحت شعارات مقبولة لدى الجماهير كالحرية والسلمية، التي تتعاطف معها، وسرعان ما تأخذ طابع العنف بالاعتداء على المنشآت العامة والخاصة، وتستخدم الحرب النفسية من خلال وسائل الإعلام والتلاعب التقني التي تشرع الكذب وتزوير الحقائق واستخدام الصور والمشاهد التي تثير العواطف، وبناء المجسمات للأماكن المراد التصوير فيها بشكل مشابه للمدن والأحياء المعروفة، لإضفاء المصداقية، واختراق التنظيمات داخل الدولة
المستهدفة وتجنيدها والعمل باسمها، والاستفادة من منظمات المجتمع المدني والمعارضة والعملاء والخونة في الدولة المخترقة، وتسليط الضوء على بعضهم ومنحهم الجوائز العلمية لإعطائهم الحصانة.. وكان من نتائج الاستراتيجية التي اتبعتها الولايات المتحدة أن نشأت مجموعة كبيرة من مراكز الدراسات والأبحاث التي تعنى بحروب الجيل الرابع، لنجد تطبيقاتها في ليبيا وسورية واليمن ومصر.

وساهمت هذه المراكز في إنشاء مثيلات لها في المنطقة، وخاصة في الدوحة عاصمة قطر التي أخذت على عاتقها تمويل وتدريب الراغبين في تغيير الأنظمة تحت عناوين كثيرة منها أفكار الثورة والثوار وكيفية التعامل مع القوى التقليدية، وأسلوب التفاوض ورفق سقف المطالب وتنفيذ خطوات العصيان المدني، وإبراز بعض المعاني الرمزية مثل حمل المصاحف وإضاءة الشمع ودق الطبول
وحمل الأعلام الوطنية وكانت أول اختبارات هذا النشاط في عام 2006 بإضرابات عمال النسيج في المحلة الكبرى في مصر، وتغطية هذه الاضطرابات إعلامياً ومادياً، برعاية من الشيخ يوسف القرضاوي وصهره هشام المرسي. إن التغيير الذي حصل في كل من تونس ومصر وليبيا في أوائل عام 2011 تحت مسمى (الربيع العربي) برزت فيه مشيخة قطر كقوة تقود هذا التغيير عن طريق
إنفاق عشرات الملايين من الدولارات بتمويل المعارضين في البلدان العربية وتسليحهم، وتهيئة نفسها لتلعب دوراً كبيراً في الأزمة السورية، وكان هذا التفكير مقدمة للحراك الذي جرى في سورية الذي لم يكن مفاجئاً، وقد أعد له إعداداً جيداً بدأت انطلاقته في الدعوة إلى إضراب في 4-5 كانون الثاني عام 2011 ليتوافق مع ذكرى أحداث حماة، من قبل نشطاء إسلاميين تحت شعارات محاربة الفساد والمطالبة بالإصلاحات ورفع حالة الطوارئ، وتتوالى الدعوات عبر الفيسبوك والبريد الإلكتروني والاتصال المباشرة إلى التظاهرة للمطالبة بالحقوق والحريات والديمقراطية، رغم أحقية هذه المطالب وشرعيتها ولكنها حق أريد به باطل.
أخذ سقف المطالب يرتفع تدريجياً للمطالبة بإسقاط النظام، ولم تتوقف الأدوار عند هذا الحد في الوقت الذي استجابت الدولة لبعض المطالب كإلغاء حالة الطوارئ وإصدار قانون العفو، إلا أن المتظاهرين بدؤوا باستخدام السلاح وإطلاق النار والاعتداء على الأملاك العامة والخاصة، ومع أن مراهنات الأمريكيين والأوربيين والسعودية وقطر وتركيا وإسرائيل على سقوط النظام خلال ثلاثة أسابيع ومن ثم شهرين ثم إلى عيد الفطر وعيد الأضحى من عام 2011 إلا أن الفشل كان ملازماً لرؤيتهم بسبب صمود الشعب السوري، مما حدا بهم إلى تغيير هذه السياسة واللجوء إلى استخدام القوة عن طريق الاعتماد على القوى الإرهابية واستقدامها من كل أصقاع الأرض وتمويلها وتسليحها وتدريبها.

 لن ندخل طويلاً في يوميات الأزمة السورية، ولم يعد خافياً على أحد أن ما جرى ويجري على الأرض السورية حتى الآن ما هو إلا حرب عالمية ثالثة، ولسنا في حاجة إلى التدليل على ذلك، ويكفي أن نسوق ما قاله حمد بن جاسم (رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري) في تصريح لقناة الجزيرة بأن ما أنفق على الحرب في سورية 137 مليار دولار لتمويل وشراء بعض الأشخاص، أمثال رياض حجاب بقيمة خمسين مليون دولار، وغيره من الذين باعوا أنفسهم وخانوا وطنهم وشعبهم.

إن ما يجري في سورية ليس أزمة داخلية كما صورها البعض أحادية الجانب تعتمد على المطالبة بالحريات والإصلاحات الاقتصادية، والسياسية والقانونية، وإن كانت هذه المطالب محقة ومشروعة، إلا أن الأزمة أكبر من ذلك بكثير، فهي تعبر عن الأزمة التي يعيشها النظام العالمي من خلال الأحادية القطبية المبنية على الهيمنة على الشعوب وخصوصاً على الدول الخارجة عن الطاعة، بسب تمسكها بالدفاع عن مبدأ السيادة والقرار الوطني المستقل، ومبدأ عدم التدخل بالشؤون
الداخلية والتمسك بالقانون الدولي (سورية نموذجاً)، وليس مصادفة أن يجتمع العالم كله على الأرض السورية بسبب حرب المصالح، وليس مصادفة أن تكون حرب الغاز أحد مكونات هذه الحرب، وليس مصادفة أن تكون مدينة حمص السورية أحد ملاعبها، بسبب خط الغاز القطري الذي ينطلق من أراضيها عبر السعودية ثم الأردن، وصولاً إلى حمص وصعوداً إلى تركيا وأوربا
والذي تعطل تنفيذه برفض سورية لهذا المشروع، وبحرب المصالح هذه أخذت الأحداث في سورية تزداد تعقيداً، وكان الموقف الروسي منذ البداية أشد المواقف تأثراً بها بما فيها التدخل العسكري المباشر بناء على طلب من الحكومة السورية الذي اتخذته الحكومة الروسية مستندة إلى سببين، الأول هو القرار الذي اتخذه الشعب السوري والصمود الأسطوري في وجه هذه المؤامرة، والثاني هو أن الأزمة السورية هي أزمة نظام عالمي بأكمله وأن الحرب على سوية ما هي إلا محطة على درب بدأ منذ عقود
وكان المسعى السوري والروسي حثيثاً من أجل إيجاد حل سلمي لهذه الأزمة لوقف نزيف الدم والتدمير الممنهج، إلا أن هذه المساعي كانت تصطدم دائماً بالمواقف الأمريكية والأوربية ودول الخليج تحت ذرائع مختلفة، بسبب عجزهم عن تحقيق الهدف الأساسي بإسقاط النظام، وكانت هذه الدول مجتمعة تجد في مسألة السلاح الكيميائي حجة وفزاعة، تستخدمها الولايات المتحدة وتسمى (خط باراك أوباما الأحمر)، ورددت هذه النغمة كل من فرنسا وبريطانيا، وهو ما تراه أمريكا مبرراً لإنزال قواتها في الشمال السوري
دون موافقة الحكومة السورية، ومخالفة للقانون الدولي، وقد نُزع فتيل هذه الأزمة المفتعلة، بتسليم السلاح الكيماوي إلى المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيماوية، ولكن بقي الاتهام لسورية قائماً كلما دعت الحاجة إلى استخدام هذه الفزاعة
ومايزال الرئيس ترامب يعزف على هذه النغمة، ومع ازدياد دورة العنف من قبل الإرهابيين وتيرة ومن قبل الغرب وعقب كل انتصار يحققه الجيش العربي السوري على الأرض، يبدأ العمل بجدية لإصدار قرار من مجلس الأمن يضع سورية تحت الفصل السابع، وإعطاء المبرر للتدخل الخارجي على غرار المسالة الليبية، وأدى هذا الإصرار إلى لجوء روسيا والصين إلى استخدام حق النقض لأكثر من مرة.

 إن المتتبع لمجرى الأحداث يعرف جيداً ما كان يجري في المؤتمرات الدولية من عرقلة لعمل المبعوثين الدوليين الذين كانت تنتهي مهامهم لمجرد عدم تقديم المسوغ المطلوب للتدخل ومخالفتهم لرغبات أميركا.
إن السنوات السبع العجاف من الأزمة السورية التي قدم فيها الشعب العربي السوري الضحايا والشهداء والممتلكات، والصمود الأسطوري للجيش العربي السوري سوف يخرج من هذه الأزمة منتصراً وبفضل مساعدة الأصدقاء الروسي والإيرانيين وكل القوى الرديفة، ودعم القوى والشعوب الحية في العالم.

 

العدد 1105 - 01/5/2024