­­­­­­­استمرار التنمية في العالم الثالث وأهمية ذلك بالنسبة للدول الصناعية

يونس صالح:

انقسم العالم حالياً وبصورة مباشرة إلى محورين رئيسيين يفصل بينهما برزح من الفلسفات المتنافرة في القضايا الفكرية والاقتصادية والسياسية هما المعسكران الشرقي والغربي، وكلاهما يقومان على بنية اجتماعية تحتية واحدة من حيث طبيعتها وهي علاقات الإنتاج الرأسمالية.

لقد كانت الهوة العسكرية والاقتصادية التي تفصل بين المعسكرين واسعة جداً عند انقسامهما، ولكن المعسكر الشرقي تمكن خلال سنوات قليلة من سد الفجوة العسكرية على الأقل، وأصبح كلا المعسكرين اليوم متوازنين من جديد في ثقلهما وقدرة كل جانب منهما على تدمير العالم بأسره.

أما الهوة التي تفصل بين الشمال المترف والجنوب البائس، فهي في اتساع مستمر، ويجمع علماء الاجتماع والاقتصاد على أن الهوة التي تفصل بين محوري الشمالي والجنوب هي من الاتساع بحيث لا يمكن سدها خلال سنوات أو عقود من الزمن.

إن محور الشمالي الذي يأوي ما يقرب من 25% من سكان العالم يستحوذ على ما يقارب 80% من الدخل العالمي، بينما يقطن في محور الجنوب 75% من سكان العالم، ويستحوذ على 20% من الدخل العالمي فقط، وينجم عن هذه المقارنة المفزعة فوارق أخرى بين سكان الشمال والجنوب.. ففي حين يصل معدل عمر الإنسان في الجزء الشمالي إلى 75 عاماً أو أكثر، لا يزيد هذا المعدل في الجنوب عن 50 عاماً.. كذلك لا تزيد نسبة الوفيات بين أطفال الشمال عن 2% ولكنها تصل إلى 20% بين أطفال الجنوب.

وهناك فوارق كبيرة كذلك، بالنسبة للتعليم ومستوى المعيشة أيضاً، فما لا يقل عن مليار نسمة من أبناء الجنوب يعيشون في مجاعة شبه دائمة، وفوق كل ذلك فإن الجنوب يعتمد على الشمال في صناعته وتقنياته واستغلال ثرواته.

ومنذ أن شهد العالم انعتاق دول الجنوب من نير الاستعمار الغربي، بدأ الحوار بين الشمال والجنوب، أي بين أغنياء العالم وفقرائه. وكعادة العلاقة بين الغني والفقير فقد كانت معظم المداولات أشبه بحوار الطرشان. لقد أجمعت دول الجنوب على المطالبة بتأسيس نظام اقتصادي عالمي جديد، ولاتزال هذه المطالبة قائمة إلى وقتنا الحاضر، إلا أن الجديد الذي ظهر على الساحة الدولية هي تلك القوة التي اكتسبتها الدول المصدرة للنفط والغاز، والتي كان لها الأثر الفعال في تحريك عجلة الحوار بين الشمال والجنوب. لقد تبنت جميع هذه الدول التي تنتمي إلى محور الجنوب الدعوة إلى إيجاد نظام اقتصادي عالمي جديد، أما الشمال فقد أدرك أن مجموعة صغيرة من الدول النامية تمسك بمفاتيح تطوره وازدهاره، وبالتالي فمن الأجدى له أن يبقى باب الحوار مفتوحاً، إلا أن مواقف الطرفين ظلت متباينة تبايناً كبيراً.. بيد أن عدداً من خبراء علمي الاقتصاد والاجتماع تقدموا ببعض الدراسات تهدف إلى تجاوز أهم العقبات التي تعوق مسيرة التنمية في العالم الثالث.. وأهم هذه الدراسات هي دراسة عن أبرز منجزات التنمية في العالم الثالث، ودراستين عن مستقبل النظام الاقتصادي العالمي، والطريق إلى تأسيس نظام اقتصادي عالمي جديد.

لقد أشارت هذه الوثائق إلى المستقبل القاتم لكلا المحورين الشمالي والجنوبي، إذا لم يتفق أبناؤهما على أسس ثابتة لنظام اقتصادي عالمي جديد مبني على العدل والمساواة والمنافع المتبادلة.

لقد رأت هذه الدراسات أن عجلة الازدهار الاقتصادي في الشمال لن تدور بأقصى سرعتها إلا إذا صاحبتها حركة أسرع منها في عجلة النمو الاقتصادي لدى دول الجنوب، وللبرهنة على صحة هذه الرؤية الجديدة للعلاقة الوثيقة بين اقتصاديات الشمال والجنوب، قدمت هذه الدراسات الحقائق التالية:

* أولاً_ تعاني الدول الصناعية منذ نحو نصف قرن من أزمات اقتصادية متوالية، ويوجد اليوم في هذه الدول مالا يقل عن 25 مليون عاطل عن العمل، وذلك على الرغم من وجود فائض في الطاقة الإنتاجية غير مستغل.

ويكمن السبب في وجود هذه الطاقة المعطلة وما يصاحبها من بطالة، في أن الطلب الفعلي على السلع والخدمات بين الدول الصناعية لا يكفي لمواجهة ما تنتجه إجمالي الطاقات المتاحة، وبالتالي فإن الحل الأمثل للخروج من هذه الورطة هو تدعيم جهود التنمية في دول العالم الثالث، وزيادة الطلب العالمي لاستغلال تلك الطاقات.

* ثانياً_ تحول دول الجنوب إلى سوق رئيسية لدول الشمال، وهذا يؤكد من جديد على الترابط الوثيق بين اقتصاديات الشمال والجنوب، وإن التفاوت الحاد بين أبناء البشرية ينذر بخطر داهم، ولذلك عملت هذه الدراسات اقتراحات لمواجهة ذلك الخطر على المدى المنظور، ويأتي في مقدمة هذه الاقتراحات ضرورة القضاء على الفقر في العالم، وإعادة النظر في تنظيم المؤسسات الدولية وصلاحياتها، وتصحيح مسار النظام النقدي العالمي، وضمان أسعار مجزية وثابتة للمواد الخام التي تنتجها الدول النامية، ونقل التقنيات الحديثة في الصناعة والزراعة إلى الجنوب، وحقن كميات كبيرة من الأموال على شكل قروض تسهيلية ومساعدات غير مشروطة لتحريك عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

العدد 1105 - 01/5/2024