ذاكرة عقيمة

هنا علي يوسف:

منذ ما يقارب خمسة عشر عاماً، أيام الدراسة الثانوية، كنت أكتب مواضيع التعبير وأستمتع بقراءتها على مسامع الأصدقاء.

دائماً، كانت العيون تترقب هذه الفتاة وتتساءل: كيف كتبت ذاك التشبيه أو تلك العبارات وأبدعت فيها؟! يسألون أنفسهم وهم يغرقون بالحب الذي خطّته أفكاري، ويسألون أنفسهم من أين جاءت بتلك المفردات الجديدة، إضافة إلى غرقهم بنار الغيرة.

يا تُرى، ما السر وراء تلك الطالبة ليثني عليها أستاذ اللغة العربية ويحكي عن كتاباتها للزملاء في كل القاعات الدراسية؟!

والمضحك المبكي أن كل الطلاب بدأت تنمو عندهم بذور الغيرة الأولى، والسبب أن أستاذ اللغة كان يتحدث كثيراً عن ما أكتبه بشكل متكرّر أمام الزملاء وعلمته بشكل تلقائي لاحقاً.

فزادهم شعور الفضول أن يتعرفوا على هذه الفتاة التي لطالما أحب أستاذها ما ترسمه ذاكرتها الصغيرة.

فأصبحت القصة لديهم مسألة منافسة لكنها منافسة غير إيجابية، ومؤذية.

فالأحاديث المتداولة بين بعض الزملاء ليجدوا لي ثغرة يصطادونني بها ويخرجونني من الماء الذي لطالما أحببت أن أسبح به ذاك العالم السرمدي، وأغوص في أعماقه لأجد الكثير من التراكيب والمعاني والماورائيات التي تحملني إلى عالم الحب لا غير ولا شيء سواه.

فبدأت رحلة التشكيك والتحدّي بأن ما أكتبه ليس من بنات أفكاري وأنه مسروق، وتكاتفت الغالبية على هذه الفكرة، ولم يتركوا فرصة تفوتهم لإخبار الأستاذ بها، فكان الرد الجميل والمنطقي منه والمنصف أن من يخط تلك الحروف صديقتكم وليست عدوّتكم ولم تؤذِ أحداً، بل هي من دون أن تشعر فعلت ما لم يقدر أحدٌ منكم على فعله.. تميّزت بكلماتها فقط، ودافعت عن إبداعها في ما بين السطور.

هذا كان الفرق بيني وبينهم، أني أفكر في الإبحار بعيداً عن ظنونهم وعن الخبث في البحث عن ثغراتي ليثبتوا لأستاذي بأني لست من أكتب، وأني سارقة لتلك الكلمات.

نعم، أنا سارقة، ولكن سارقة من بحر همومي، ومشاكلي!

سارقة من ذاتي وإليها المصير والحب الوفير!

أسرق كلّ لحظة، كلّ موقف، حتى وإن كانت رفّة عين.. أسرق أحلامي لتتحقّق وأسرق أيامي لتمرّ.

نعم يا أصدقائي، إلى اليوم، أسرق الفرح من قلب الحزن، والألم. يصعب عليّ أن أجرحكم بآلامي، لهذا كنت أكتب كلماتٍ جميلة لتفرحوا بها.

ولم أعرف إلا مؤخراً عن غيرتكم السلبية، كنت أتمنى أن تكون إيجابية، ولكن اكتشفت أننا نعيش في غابة، الهدف الأول أن نشكك بكلّ إبداع وبكل الجمال الذي يحصده أيّ إنسان.

البعض تعوّد على الظن السيّئ، تعوّد على أن يؤذي مع قصد، وان يتدخل فيما لا يعنيه.

وإلى يومنا هذا لم يتغيّر شيء في الحياة، هم ذاتهم الأشخاص المُؤذون، ولكن بغير وجوه، على اختلاف الأماكن والأساليب التي لا تخطر ببال، إلا من يحمل في قلبه الضغينة.. من لم يستطع التصالح مع نفسه، ليس بالضرورة أن تكون متعلماً أو غير متعلم، لا فرق إذا كان في قلبك سوادٌ لا يحميه لا علمٌ ولا جهل، بل على العكس، في بعض الحالات يدّعي شخصٌ العلم والثقافة وهو مجرّد من كلّ الإنسانية وأشكال الحب والمودّة.

لا تهمّني درجة ثقافتك أو ما تملكه من مال، الأهمّ عندي ما تملكه من الإنسانية والمحبة التي نادت بها كلّ الأديان السماوية.

العدد 1104 - 24/4/2024