حاضر غائب

د. أحمد ديركي:

عندما كنا صغاراً في المدرسة، يدخل المعلّم أو المعلمة إلى الصف ويأخذ التفقد. وهذا عمل روتيني يجري في كل حصة دراسية. يُذكر اسم التلميذ أو التلميذة، ويكون الرد بكلمة (حاضر)، أو برفع اليد. وفي حال عدم وجود صاحب الاسم، أو صاحبته، يسجل حرف (غ) بجانب الاسم: غياب.

فالغياب يعني عدم حضور الشخص في المكان الذي يجب أن يكون حاضراً فيه. وتتعدد أسباب الغياب فمنها ما هو قسري ومنها ما هو إرادي. أي أن الشخص قد يغيب عما يجب أن يكون فيه لأسباب تجبره على الغياب، أو يكون هو من قرر الغياب. طبعاً خلال المرحلة الدراسية يكون الغياب في معظم الأوقات قسرياً، خارجاً عن إرادة التلميذ.

الحضور يعني وجود الشخص في المكان الذي يفترض أن يكون موجوداً فيه، لكن الحضور يمكن أن يُقسم إلى قسمين: حضور فاعل، وحضور غياب. نعم حضور غياب يعني أن الشخص موجود في المكان الذي يفترض أن يوجد فيه، لكنه غير متفاعل مع المحيط، فيكون حاضراً جسدياً وغائباً فعلياً. وبهذا يختلف الحضور الفاعل عن الحضور الغيابي.

يبدو من مجريات الأحداث المحلية والإقليمية والعالمية أن هناك أنظمة سياسية وشعوباً كثيرة في حالة الحضور الغيابي. وهناك قلة منهم في حالة الحضور الفاعل. فمن خلال تتبّع مسيرة فاعلية هذه الأنظمة والشعوب، يمكن إصدار الحكم على طبيعة حضورهم. فالمسألة ليست عددية بل إنتاجية. فلو كانت عددية لكانت الأنظمة العربية والشعوب العربية من ضمن الأكثر حضوراً، لكن للأسف العكس هو الصحيح.

فمنذ أيام قليلة تبين الحضور الغيابي للإنتاج المعرفي للعالم العربي برمته، من أنظمة وشعوب. كيف؟ حالياً هناك اختراع اسمه الشبكة العنكبوتية، التي من خلالها يمكن الدخول إلى حقول كثيرة، طبعاً إضافة إلى فرعها المتعلق بمواقع التواصل الاجتماعي. ومن ضمن أحد أبرز هذه المواقع العلمية المتخصصة بالفيزياء الجزئية (والبعض يطلق عليها تسمية فيزياء الجسيمات)، عالمياً، على الشبكة العنكبوتية، موقع اسمه (cern). وهو مركز أبحاث أوربي متخصّص في هذا الحقل ومصدر مهمّ لكل دارس لهذا الحقل في العالم.

يحاول مركز (cern) أن ينشر كل أبحاثه على الموقع المخصص له انطلاقاً من قاعدة لديه تقوم على أن يكون العلم متاحاً للجميع. لذا فهو موقع متخصص مجاني لكل الباحثين المحبين للاطلاع على آخر الأبحاث والتجارب في هذا الحقل. وقد نشر منذ فترة وجيزة خطته للتشارك مع بعض المكتبات العالمية لتسمح له، قانونياً، أن يشبك معها لينشر على موقعه الكتب الموجودة لديها والمتعلقة بالحقل المتخصص فيه. وقد فعلها. فكل من يدخل إلى الموقع يجد فيه خانة تخوله الدخول إلى هذه الكتب المتخصصة.

طبعاً هناك كمٌّ هائل من هذه الكتب، المتاحة إلكترونياً، من خلال الموقع. ولتسهيل عملية البحث فقد قسم وفقاً لعدة تصنيفات من الأحرف الأبجدية وصولاً إلى المواضيع.

الأمر الجيد في هذا الأمر مسألة تتعلق باللغات، فهناك تصنيف للكتب وفقاً للغة التي كتب بها الكتاب. هذا الأمر الجيد مثير للحزن ومحبط للآمال المرجوة.. لماذا؟

ببساطة وفقاً لتصنيفات اللغة يوجد ما يزيد عن 22 ألف كتاب باللغة الإنكليزية متخصصة بهذا الحقل، منذ نشأته لغاية اليوم، مقابل ما يقل عن ألفي كتاب باللغة العربية! ومعظم هذه الكتب باللغة العربية قديمة أو دراسات حول بعض العلماء العرب القدماء الذين حاولوا دراسة الفيزياء وحقولها من أمثال ابن الهيثم وغيرهم. أي معظم كتب اللغة العربية، وبخاصة الجديدة منها محاولات تظهير عظمة القدماء!

أي عند أخذ الحضور يمكن القول إن العالم العربي برمته حاضر غائب عن هذا العالم! ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل هو حاضر غائب في أمور وحقول متعددة لا تعد ولا تحصى.

لقد كشف عن الخلل المتمثل بالحضور الغيابي. وهو خلل جلي واضح من مجرد القيام بإحصاء بسيط، يستطيع أي تليمذ في المرحلة الابتدائية أن يقوم به وليس بحاجة إلى هذا العمق في دراسة الرياضيات وعلوم الإحصاء الحديثة. وهنا يمكن أن يُطرح السؤال التالي: ما أسباب هذا الحضور الغيابي للعالم العربي؟ طبعاً في هذا الحقل فقط، لأنه لا يمكن الذهاب إلى بقية الحقول المعرفية لتشبك الموضوع؟ أي بعد أن كشف الخلل لا بد من طرح العلاج! وإلا بقينا ندور في حلقة مفرغة بالحديث عن الخلل.

من الواضح أن بدايات تشكل الخلل تكمن في الأنظمة السياسية القائمة. لماذ؟ لأنها أنظمة لم تهتم بالحقل التعليمي لتنتج أشخاصاً متعلمين منتجين في كل الحقول يعملون على تطوير وتحسين ما هو قائم، بل عملت على إنتاج أفراد، من خلال الأنظمة الأنظمة التعليمية التي وضعتها، ليكونوا سلعة في السوق. أي أن التعليم في العالم العربي تعليم تلقيني يخدم حاجة السوق الاستهلاكي، لا السوق بشقية الإنتاجي – الاستهلاكي. وقد يتضح هذا من خلال أمور متعددة من نسب التسرب المدرسي في العالم العربي وصولاً إلى عدد الطلاب في الجامعات. وتحديداً في التخصصات الجامعية. لتكون الأمور أكثر وضوحاً كم طالباً مسجلاً في فرع علم الاجتماع، على سبيل المثال، مقابل عدد الطلاب المتسجيلن في فرع إدارة الأعمال؟ السؤال: لماذا هذا الفارق المرعب بين العددين؟ الإجابة: تلبية لحاجة السوق الاستهلاكي. من المنظم لكل هذه العملية، أي العلاقة بين التعليم والسوق؟ في العالم العربي النظام السياسي هو المسؤول الأول عن هذه العملية. فهذا بُعد من أبعاد الحاضر الغائب الذي يعاني منه العالم العربي. فهل من متابع لاستكمال هذا الموضوع، والغوص فيه بشكل أعمق؟!

العدد 1104 - 24/4/2024