بين المأساة والمهزلة

يشتكي نيتشه من تراجع الثقافة والتعليم العالي في ألمانيا، في تلك الفترة، وأن الثقافة فقدت روحانيتها ومنطقيتها. فمع تطور الصناعة ورأس المال الصناعي وخصوصاً الصناعات العسكرية، أصبح التعليم العالي عبداً لمتطلبات قطاعات الدولة، وجرى تجميد عملية التعليم بما تحتاجه الدولة ولم يعد هناك ثقافة نبيلة، فيقول: (في الواقع إن ما يفعله التعليم الألماني الذي يسمى تعليماً عالياً هو ترويض عنيف يمكن بأقصر وقت ممكن من جعل العديد من الشباب صالحين للاستخدام صالحين للاستغلال في مجال الدولة وخدمتها). فالتعليم العالي أصبح كلمة فضفاضة بعد أن كان امتيازاً للموهوبين والمثقفين الحقيقيين، ويتساءل نيتشه في كتابه (أفول الأصنام) ما الذي يحدّد انحدار الثقافة الألمانية إذاً؟؟ ويجيب: (التعليم العالي لم يعد امتيازاً. إنها النزعة الديمقراطية في الثقافة العامة التي أصبحت شائعة وعامية. لا ننسى أن الامتيازات التي يمنحها الجيش ترغم الناس على التردد على المدارس العليا بإفراط وترغمهم على تخريبها. في ألمانيا لم يعد أحد حرّاً في تربية أبنائه بشكل رقيق. كل مدارسنا العليا دون استثناء مضبوطة على سطحية مريبة جداً في هيئتها التدريسية)_ انتهى الاقتباس.

طبعاً لا ننسى أن نيتشه يعتقد أنه لا توجد دولة راعية للثقافة الحقيقية التي تخلق الإنسان الجديد الفيلسوف الذي يتكلم خارج قطاع الدولة، بل انحدرت في الثقافة والتعليم إلى ما يخدم اقتصاد الدولة وقوتها، إذ يصرّح نيتشه: (الدولة والثقافة لا تعيشان معاً، تعيش واحدة على حساب الأخرى، وتزدهر واحدة وتكبر على حساب ضمور الأخرى، وكانت العصور العظيمة للثقافة عصور انحطاط سياسي، وكل ما كان عظيماً ثقافياً، كان غير سياسي بل مضاد للسياسة، لقد تفتّح قلب غوته على ظاهرة نابليون وأُغِلق في حروب التحرير، وفي اللحظة نفسها التي أصبحت ألمانيا فيها قوة عظيمة، امتلكت فرنسا أهمية جديدة كقوة ثقافية)_انتهى الاقتباس .

 

المهزلة

مأساة نيتشه منذ أكثر من مئة عام تتمثل بانحطاط الثقافة الألمانية وحصرها بخدمة الدولة وجعل المتعلم مصدراً للاستغلال، فلم يعد هناك ثقافة نبيلة وفقدت الحكمة روحها، ماذا لو أردنا المقارنة بين مأساة نيتشه ومفهوم التعليم العالي أو الثقافة بالنسبة لنيتشه، الثقافة الحرة المتحررة من أي محفز خارجي، الثقافة لغاية خلق الإنسان الحكيم المتنور هذا الإنسان الذي يمسك بيده المطرقة لهدم كل إيديولوجية لا تتفق مع معايير التفكير والقيم المعاصرة، وقارنّاها مع مفهوم الثقافة والتعليم العالي في بلادنا،

ماذا عن تعليمنا العالي؟ ماذا عن ثقافتنا في وقتنا الحاضر؟ هل هو مقتصرٌ على الموهوبين الأذكياء؟ هل هناك من ينظر داخل الدولة أو خارجها؟ هل الغاية من التعليم هي العلم والمعلومة والثقافة العميقة لخلق الإنسان القوي الجديد؟

مازالت مأساة نيتشه بلوغها هدف عظيم، مازلنا لا نعلم شيئاً عن سياسة الاستيعاب في التعليم العام، ولمَ هذا الفائض من الخريجين؟ ورغم كل هذا الفائض في التعليم الحكومي هناك الجامعات الخاصة، التي ضاعفت الخريجين والغاية ليست مرافق الدولة واستغلال المتعلم، ربما وجدت هذه الجامعات لأهداف أخرى، فالشهادة الجامعية لوحة كغيرها لتزيين الجدران أو ربما لمتطلبات الحضور الاجتماعي (البرستيج). فأنت بحاجة للشهادة الجامعية، وقد تكون الجامعات الخاصة لا لشيء سوى مشروع تجاري يدرّ ربحاً على أصحابه.

نعم، يا نيتشه، التعليم لم يعد للموهوبين وليس للدولة بالضرورة، وقد لا يستغل من مرافق الدولة، لقد أُفرغ التعليم من مضمونه بعد أن أصبحت الدراسة لما يأتي في الامتحان وليس لغاية المعرفة، وليست الدراسة في أغلبها لخلق الإنسان بل مهنة قد تدرّ مالاً. لقد طور العالم وسائل الاتصال، وغزت ثقافة من نوع جديد كلّ البيوت، فما تبثه وتنقله المحطات الفضائية من برامج سياسية واجتماعية ودينية كوّنت ثقافة مقزّمة عند سواد الشعب، ثقافة تعتمد على السمع والرؤية، فمن ثقافة التحليلات السياسية للمحطات المسيسة والمؤدلجة صار الطالب والفلاح والعامل محلّلاً سياسياً وفيلسوفاً، فلم تعد السياسة مثلاً مبنية على النظر في علم التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة، وتحليل الواقع المعيش بشكل علمي وموضوعي ووفق أسس ثابتة، لقد أصبح لدينا، يا نيتشه، ثقافة منصات التواصل الاجتماعي، هذه التقنية التي سمحت لسواد الأمم أن يدلوا دلوهم في كل الطروحات السياسية والاجتماعية والدينية، دون أن يحملوا أي خلفية فكرية، مما أدى إلى ظهور ثقافة شعبية سريعة الانتشار خالية من كل مضمون، هدفها الأول الاستهلاك وخلق الإنسان المستهلك المُقَلّد، فاقد لكلّ روح ومنطق وعلم حقيقي، لقد انحدر الفن وانحدر الذوق العام، وتقزمت الثقافة، وخلق الإنسان المشوّه المستلب .

ماهي طروحات نيتشه لحل مشكلة الثقافة والتعليم العالي، في ألمانيا في تلك الفترة؟؟

طرح نيتشه الحل بأن الإنسان عليه أن يتعلم ثلاثة أمور

كيف يرى؟ وكيف يفكر؟ ويجب أن يتعلم كيف يقرأ ويكتب وكيف يرى: هو الإحاطة بكل موضوع من كل جوانبه بروية وهدوء حيث تصدر الأحكام موضوعية وبإرادة قوية خالية من التأثر بأي مؤثر أو محفز خارجي، وكابحة لكل غريزة وهوى، فهو يقول: (عندما يتعلم المرء كيف يرى سيصبح المرء بطيئاً بكليتيه غير واثق ومتمرّداً، في البداية سيدع كل ما هو مجهول وجديد يقترب بهدوء ويفحصه بهدوء عدواني، ومن ثم يسحب يده ليدع جميع الأبواب مفتوحة، وأن يفرك على معدته بالتذلل أمام كل حقيقة ضئيلة، وأن يكون دائماً مستعداً للقفزة التي تضعه في ذلك المكان أو تدخله في أعماق ذلك الشيء)_انتهى الاقتباس .

كيف نفكر؟: بأن يبقى المنطق حياً كنظرية كمعرفة تتطلب براعة فنية، علينا ان نتعلم التفكير كما نتعلم الرقص، فالتفكير نوع من أنواع الرقص وأن تكون قادراً على الرقص مع القلم.

(وأن يتعلم كيف يكتب، ولكن عند هذه النقطة يجب أن يكون مبهماً للقراء الألمان).

 

* الاقتباسات من كتاب أفول الأصنام، فصل– ما ينقص الألمان.

* عبد الكريم ناصر الجندي – سورية

العدد 1105 - 01/5/2024