تشبُّثٌ قهريّ أم قدريّ؟!

إيمان أحمد ونوس:

ممّا لا شكّ فيه أن الموروث بشقّيه الديني والاجتماعي، إضافة إلى القيم والتقاليد، قد طغت في كثير من جوانب الحياة حتى على القانون، فقد صار للعرف مكانته الخاصة حتى أثناء تشريع بعض القوانين، خاصّةً تلك المتعلّقة بالمرأة.

لقد أطّرت الأديان ومعها القيم المجتمعية كيان المرأة بإطار واحد أوحد، ألا وهو ذلك الدور التقليدي المنوط بها في كل زمان ومكان بأن تكون فقط زوجة وأمّاً ولا شيء آخر يُمكن له أن يُخرجها من حواف هذا الإطار، ولاشكّ أن في هذا الطغيان اغتيالاً لوجود المرأة ودورها المطلوب منها، بعدما اقتحمت ميادين العلم والعمل.

لكن المؤلم والمُفجع أكثر أن يصل هذا الطغيان حدّ تبنّي المرأة ذاتها هذا الإرث والإيمان الراسخ فيه، فهنا الطامة الكبرى، لاسيما عندما تكون هذه المرأة على قدر معقول من التعليم أو حاصلة على شهادات جامعية من المفترض أن تؤهلها للخروج من شرانق المنطق التقليدي والقيمي المُتجذّر في الذهنية الاجتماعية المقيّدة لها عن كل انطلاق، أو على الأقل محاولة تغيير بعض ملامح الصورة النمطية أو القدرية التي رُسِمَتْ لها. ولعلَّ الزواج هو القدر الأزلي الذي ربما تغلغل في جينات الأنثى منذ أن ترى عيناها النور، حيث يجري إعدادها وتأهيلها له، قبل أن يجري التفكير بتعليمها، حتى بات هو الهاجس الأكبر لغالبية الفتيات حين يبلغن أنوثتهن وهنَّ ما زلن طفلات. وبالتأكيد يجري تعزيز هذا الهاجس من خلال التربية التقليدية التي تقتضي حتى حين اختيار الألعاب لهن أن تكون (باربي) أو أمّاً تحمل الدمى وزجاجة الحليب.. الخ. ونادراً ما نسمع من طفلة حلماً آخر غير أن تكون عروساً جميلة بثوبها الأبيض ذات يوم، إنه حلم يُدغدغ مشاعرها مثلما يُدغدغ أنوثتها المُعزّزة أبداً بأحاديث وآمال الأمهات ودعواتهن لها بابن الحلال الذي يستحقها ويصونها ويستر عليها!

إن هذا القدر الذي وشمته القيم والأعراف الدينية والمجتمعية على جبين كل أنثى منذ ولادتها، قد جرى تحويله إلى وسواس قهري تعيشه أغلب الفتيات خشية أن لا تحظى بزواج مناسب، رغم أنها في بعض الأحيان قد حصّلت تعليماً مقبولاً أو عالياً يدفعها باتجاه أحلام أخرى غير الزواج ولو إلى حين، لكنها للأسف تخشى على أنوثتها التي لا تكتمل إلاّ بالزواج والإنجاب. هذا ما نتلمّسه حين نسأل بعض الفتيات عمّا تُخطّطه لمستقبلها بعد التخرّج أو الحصول على عمل لائق.

لا شكَّ أن هناك دوافع وأسباباً أخرى تُعزّز من مكانة هذا القدر، كالنظر إلى الفتاة التي تخطّت (سنّ الزواج) المُتعارف عليه على أنها غير مرغوبة أو غير صالحة للزواج، وبالتالي محاولة الهروب من تسمية (عانس)، تلك الصفة السيئة والمرفوضة في زمنٍ يفترض حضوراً آخر للمرأة ومكانة أكثر فاعلية. هذا على المستوى الاجتماعي.

أمّا إذا ما نظرنا للموضوع من وجهة اقتصادية في زمن الجوع والقهر والفقر بعد سنوات حرب عبثية أطاحت بمختلف القيم الإنسانية، يغدو الزواج طوق نجاة للفتاة والأهل معاً، إضافة إلى النظرة التقليدية والظالمة إلى الرجل في آنٍ معاً حين فُرِضَ عليه أن يكون المسؤول الأول والأخير، بل والأوحد عن معيشة ومستقبل المرأة أيّاً كانت صلتها به (أم، أخت، زوجة وابنة) رغم أننا في زمنٍ غالبية النساء مُنتجات مادياً، بل ومُساهمات فاعلات في حياة الأسرة واحتياجاتها كافة. إن الصورة والمكانة التقليدية للرجل جعلته الحلم والمُنقذ، والداعم بغضِّ النظر عن وضعه وظروفه الاقتصادية أو المادية، وبالتالي هي من عزّزت لدى الكثير من الفتيات وجوب تأمين مستقبلها مع رجل مسؤول عنها حتى لو كانت مُستقلة مادياً. وهنا نلمس سعي العديد من الفتيات للحصول على رجل مُقتدِر كما يوصف بالعامية كي تعيش معه برفاهية تُحقّق أحلامها ورغباتها، وتُبعدها عن الحاجة إن استدعت الظروف. أيضاً، علينا ألاّ نُغفل جانباً آخر مهمّاً فرضته القيم الدينية والمجتمعية حتى تغلغل وباللاوعي في أذهان الجنسين معاً، وهو أن الرجل ولا أحد سواه هو السند والأمان والحماية بالنسبة للمرأة، انطلاقاً من مبدأ الولاية والقوامة التي فرضها الشرع والقيم القبلية والعشائرية التي ما زلنا محكومين بها ونحن في الألفية الثالثة، فكيف إذا كان المجتمع يعيش حرباً امتدت لسنوات وافتقدنا معها الأمن والأمان. إن افتقاد الأمان والأمن بمختلف تجلياتهما يُخلخل كل إمكانية للعيش بإنسانية حقيقية للجميع، فكيف للمرأة التي هي بالأساس الحلقة الأضعف في المجتمع سواء في السلم أو الحرب؟

لقد بات الكثير من الفتيات يسعين باتجاه الزواج مهما كانت نتائجه بحثاً عن أمانٍ مفقود، بعدما فقدن الأب أو الأم أو حتى الأسرة بمجملها، ولأن الزواج بنظر الكثيرات أو حتى المجتمع هو الحصانة الأولى والأساسية للمرأة مهما علت مكانتها العلمية أو المهنية.

لا شكّ أن للموروث والقيم والأعراف دورها الأساس في تعزيز أهمية وضرورة الزواج بالنسبة للفتاة، غير أن ما نعيشه اليوم من أزمات أخلاقية وحتى وجودية ضاغطة، إضافة إلى الأزمات المعيشية التي انحدرت بإنسانيتنا إلى حدودها الدنيا، لها الدور الأكبر في سعي الفتيات للزواج مهما كان الثمن اتقاءً ربما لشرٍّ محتوم بنظرهن فيما لو بقين بلا زواج!!

العدد 1104 - 24/4/2024