نحات السينما السورية.. ريمون بطرس في ذكراه

فادي الياس نصّار:

سألتني ماذا تعني لك حماه…؟

قلتُ:حماه،أولاً وأخيراً هي أم الفقراء، ولاّدةُ الرجال، سيف القوى العاملة في سورية، ومدرسة الفلاحّة والزراعة، والبئر الذي رمى فيه رعاة الغنم  كل أسرار الحليب فأخذت منها “الحلونجي” سر حلاوة الجبن.

حماه زحمة من خليط رهيب بين ريف ومدينة، يمتد من شارع 8 اذار العتيق الى السوق الطويل الشعبي حتى الثمالة، وبينهما جورة حوا الحي الوديع.

حماة الذهب العتيق في سوق الصاغة، ورائحة الخضرة والفواكه في الحاضر الصغير،حماة حي الشريعة البرجوازي المنفتح، بين قوسين، والأندلس الجميل.

حماة، الشيوعي العريق والقائد العمالي محمد الحبال،  والزعيم الاشتراكي أكرم الحوراني ومن بعد عبد الغني قنوت وغيرهم.

حماه هي الرحم الذي أنجب طبيب الفقراء وشاعر الحمراء الدكتور الظاهرة وجيه البارودي، كما أنجب الصيدلاني الوطني الشهيد صالح قنباز، والإنسانية متجسدة في السيدة ريما الحافظ صيدلانية حماة الأولى.

حماه نقيب المحامين الشهيد الشيوعي تايه جمعة(قتل على أيدي الاخوان) .حماة الشاعر الموسوعة مصطفى صمودي والمسرحي مختار كعيد.

حماة.. صيدلية شاكر الكبيرة، ومحلات عابدين العطار الذكي…وأنامل الخياط الفنان عارف عنجاري.

حماة قيطاز حلاوة الجبن وبوظة “الروادي”، وبينها :سلورة” الحلونجي العريق. حماة، أهل “الحاضر” النشامى وباب قبلي والجراجمة التي تتكئ على كتف حي المدينة، وفي هذا الحي بالذات مربط فرسنا .كونه شهد سنة ١٩٥٠ مولد المخرج السينمائي المبدع ريمون بطرس، والذي صادف يوم ٢ أذار الفائت ذكرى رحيله عن عالمنا.

لقد حلم ريمون ببلاد تسودها الحرية والعدالة الاجتماعية. وطالما اتخذ من  مدينته حماة موقع لمعظم أحداث أفلامه، والتي كان يرويها،كجزء من ذكرياته، فمثلاً تحدث في فيلمه “الترحال – 1997”   عن قصة  أسرة “حموّية” يذهب معيلها عام 1948 إلى القتال مع “جيش الإنقاذ العربي” في “فلسطين”. ليعود مع عشرات المحاربين إلى “سوريا” خلال حقبة الانقلابات العسكرية حتى نهاية عام 1954، فتبدأ ملاحقته ومضايقته ممايضطره إلى الهروب نحو لبنان، يركز خلال الفيلم على مهنة الحجارّين (نحاتين الحجر) وهي مهنة والده الفنّان مطانيوس بطرس الذي تنتشر أعماله في العديد من مساجد وكنائس مدينة حماة وريفها  .

فيما نحت في فيلمه الوثائقي “الشاهد”، عبر بصرية شاعرية صورة دقيقة  عن الحياة على ضفاف نهر العاصي، بكل تفاصيلها، وطقوسها وعاداتها…محاوراً نهر العاصي القاسي المتمرد والذي يدير النواعير ويغازلها دون كللٍ  أو ملل. أما في فيلمه “الطحالب – 1991″، فقد عالج ريمون مسألة الوصولية عند البشر.

بقدر ماكان متمسكاً  بمبدأيته في الحياة كشيوعي حقيقي..حاول جاهداً أن يسكب هذه المبادئ والأفكار في أعماله.

ففي رصيده عددٌ كبيرٌ من الأفلام الوثائقية التي حاول من خلالها البحث عن هوية الإنسان السوري، لعل أبرزها “عندما تهب رياح الجنوب” و”صهيونية عادية” الذي نال عنه جائزة مهرجان مولديست  1974″ و”همسات – 1999″ و”خطوات – 2002″ و”ترانيم – 2006″، وحتى عندما خرج من العباءة الحموية ودخل البيئة الشامية من بوابة فيلمه الروائي الثالث “حسيبة – 2008″ عن رواية لخيري الذهبي، ولج إليها من بوابة الفئات الشعبية في مدينة دمشق.

وبعدها وقبلها عشرات الأعمال الإبداعية نحتها نحتاً، فقد عمل محرراً لسنوات طويلة للصفحة الثقافية ومدير تحرير لـ”جريدة النور”.. ومحرراً  للأخبار في الإذاعة السورية (القسم الروسي) بين عامي (1979- 1987) كما ترجم أكثر من مئة وخمسين ساعة سينمائية للتلفزيون السوري.

عاش ريمون آخر أيامه  معتكفاً في بيته بحي مساكن برزة الدمشقي، مردداً  مراراً وبلهجته الحموية القوية جملته الشهيرة: “لعنة الله عليكم!”  معبراً عن غضبه الحموي لما آل إليه الوضع العام للشعب السوري، وما يذوقه يومياً من فقرٍ وقهرٍ وحرمان.

بقي بطرس شيوعياً حتى آخر أيامه، مؤمناً بالفكر الماركسي،  نديمه الكتاب والكأس والموسيقى، الورد كله لذكراك أيها الانسان الذي عاش مناضلاً سبح ضدّ تيّار الواقع، ثائراً تعمَّد منذ طفولته بماء العاصي حالماً، مبدعاً يرسم نحتاً لمجتمع مدينة العمر (حماة) مالئً حجارتها البكماء بالحياة والحب والفرح … تحية الى روحك يا أبا عمر.

العدد 1105 - 01/5/2024