على بُعد خطوة

أحمد ديركي:

عند الحديث عن المسافات تستخدم عدّة وحدات قياس لقياس بُعد نقطة عن أخرى، فمثلا البُعد بين نقطتين يمكن أن يقاس بالكيلومتر، أو الميل، أو السنتيمتر، أو الإنش أو… فكلما تقاربت المسافة بين نقطتين صغرت وحدة القياس، على سبيل المثال، المسافة بين أصبعين في كف اليد الواحدة يقاس بالسنتيمتر، لقصر المسافة بينهما، والمسافة بين بلدين يقاس بالكيلومتر.. وعند قياس المسافة بين الكواكب تستخدم السنة الضوئية لبعد المسافة..

وإضافة إلى كل هذه الوحدات الدقيقة لقياس المسافة بين نقطتين، هناك وحدات قياس ليست بدقتها لكنها تُعبر أيضاً عن المسافة بينهما، للمسافات القريبة والمسافات البعيدة. ومن وحدات القياس هذه، غير الدقيقة، وحدة قياس تُعرف بالخطوة. والخطوة هنا المقصود بها خطوة إنسان. حتى الصغار بعرفون القياس بالخطوة وكثيراً ما يستخدمونها في ألعابهم الصبيانية في الحارات والأزقة. والكبار كثيراً ما يستخدمون هذه العبارة (على بعدة خطوة) للدلالة على قصر المسافة. أي أن تعبير (خطوة) للدلالة على المسافة، تعبير مجازي عن قصر المسافة، ودقيقة إلى حد كبير.

حالياً هناك أحاديث كثيرة، أحاديث رسمية، وتقارير رسمية، تستخدم مصطلح خطوة للتعبير عن قصر المسافة بين المراد فعله والهدف المنشود من الفعل. وهذا أمر يستوقفنا كثيراً وقليلاً! فعندما يكون الفعل أخلاقياً يحفز الفعل لتتحقق الخطوة، وعندما لا يكون أخلاقياً يكون هناك محاولات جادة لتوقيف مفاعيل الفعل كي لا يتحقق. وفي كلا الحالين تكون الإجراءات المتخذة سريعة وحاسمة لأن الخطوة ليست بالمسافة البعيدة بين الطرفين. وإن لم تكن هذه الإجراءات حاسمة فيكون كل ما يقال حول التنفيذ أو عدم التنفيذ مجرد أكاذيب لتحقيق الفعل، سواء كان أخلاقياً أم غير أخلاقي.

الأمر هنا يتعلق بموضوع المجاعة، أي المسافة الفاصلة بين تحقيق المجاعة أو إيقاف المجاعة. فالمسافة الفاصلة بين تنفيذ فعل المجاعة، وتوقيف تنفيذ فعل المجاعة مجرد خطوة.

تحدث المجاعات، عند البشر، لأسباب متعددة، وحديثاً هناك جهد بشري جبار للقضاء على المجاعات في العالم، جهد تبذله ما يعرف بالأمم المتحدة، بكل تفرعاتها، ودول العالم برمته تتعاون لتوقيف المجاعات، أينما حلت. وأكثر ما تحدث المجاعات، في العالم الحديث، تحدث بسبب كوارث طبيعية. لذا لم يعد الحديث عن مجاعات قد تقع في هذه البقعة من العالم أو تلك بذاك الأمر المهول لتكاثف الجهود لمساعدة الجياع للخروج من المجاعة.

لكن الأمر المستغرب في عالم اليوم أن هناك مجاعة على بُعد خطوة من الوقوع، والعالم، والمنظمات الدولية، يساهمون في وقوعها!

فالكيان الصهيوني بعدوانه الوحشي على غزة، وباستخدامه أحدث الأسلحة الأمريكية الصنع، يبيد الشعب الفلسطيني بواسطة هذه الأسلحة، والشعب الفلسطيني يقاوم. ولم يكتفِ الكيان الصهيوني باستخدام الأسلحة، بل منذ زمن وهو يحاصر قطاع غزة ولا يسمح بإدخال المواد الغذائية إليه إلا بما يكفي حاجة سكان غزة. وها هو ذا اليوم يطبق الحصار على قطاع غزة ويمنع عنه الغذاء، طبعاً والدواء وأموراً أخرى كثيرة. وبهذا يكون الكيان الصهيوني يرتكب جريمتين بجريمة واحدة: جريمة إبادة للشعب الفلسطيني بأسلحة أمريكية الصنع، وتمويل عالمي وتسهيل عالمي، لأن السلاح لا يمكن أن يصل من الولايات المتحدة الأمريكية إلى الكيان عن طريق الفضاء، بل عليه أن يمر عبر ممرات الكرة الأرضية، سواء كانت برية أو بحرية، وهذه الممرات تمر عبر حدود العديد من الدول ومنها دول عربية. والجريمة الأخرى التي يرتكبها الكيان هي منع دخول أي غذاء إلى قطاع غزة، أي يعمل على موت الشعب الفلسطيني من الجوع! لذا هناك تعابير كثيرة تصرخ وتقول إن المجاعة على بعد خطوة.

كل هذا يحدث والعالم صامت علناً ويدعم ضمناً. وأكثر الداعمين لارتكاب هذه المجاعة هي تلك الدول التي تتبجح وتقول إنها ترسل مواد غذائية لمن هم في غزة عبر الجو! وتسقط معظم هذه المواد الغذائية في البحر!

المضحك ليس فقط إسقاط المواد الغذائية بالبحر، بل كيف استطاعت هذه الطائرات، طائرات المساعدة، أن تحلق فوق قطاع غزة ما لم يسمح لها الكيان بهذا؟ أي لا بد لها أن تأخذ الإذن من القاتل أولاً. والقاتل منحها الإذن ليقول إنني أسمح باسقاط الغذاء جواً. لكن هل اتفق مع الطائرة على إسقاط المواد الغذائية في البحر؟ سؤال لا أحد يجيب عليه وبخاصة الدول التي أرسلت الطائرات والكيان.

لكن كل هذه الأفعال، التي تبدو أنها من أجل مساعدة الشعب الفلسطيني، تفيد أمراً واحداً وهو أن الجميع متآمر على القضية الفلسطينية، إلا بعض دول أمريكا اللاتينية. فالمجاعة وقعت، والأقوال لمنعها كثيرة، والأفعال تشير إلى عكس منعها. وبهذا فإن الجميع يساهم في قتل الشعب الفلسطيني بالأسلحة الأمريكية، والمجاعة المتعمدة والمقصودة.

فها نحن نشهد عملية إبادة جماعية لشعب بأن يموت جوعاً بفعل مقصود والجميع لا يبالي، بل يدعم، كل على طريقته الكاذبة التي تقول إنه يدعم القضية الفلسطينية وشعبها.

فأهلاً بالخطوة التي لم تعد خطوة، بل أصبحت صفر خطوة!

العدد 1104 - 24/4/2024