المساكنة.. ما بين الحلول والنتائج

إيمان أحمد ونوس:

أحدثت المتغيّرات الطارئة على مختلف المجتمعات منذ اندلاع ثورة الاتصالات وما تبعها من تقنيات وأدوات كمنصّات التواصل الاجتماعي المُتنوعة تحوّلات هامة طالت القيم والمفاهيم نحو الكثير من المسائل والموضوعات الرئيسية في حياة الناس، بعضها إيجابي، وبعضها الآخر سلبي خطير لما ينطوي عليه من أذيّات تطول شريحة الشباب أولاً باعتبارهم الأكثر انفتاحاً في تعاطيهم مع تلك التقنيات، خاصة أنهم القاعدة الأساسية في تطور أيّ مجتمع. فلقد تبدّلت بعض المفاهيم الاجتماعية بما يخص العلاقة المتبادلة بين الشاب من الجنسين، ونظرة كلٍّ منهما إلى هذه العلاقة من جهة، وإلى الزواج من جهة أخرى.

ورغم اتساع مساحة الاختلاط بينهما، خصوصاً في المرحلة الجامعية، أو في مجالات العمل، إلاَ أنه من الملاحظ ارتفاع معدّل سن الزواج من جهة- وهذه ظاهرة إيجابية- وكذلك ارتفاع نسبة العنوسة من الجنسين- وهذه ظاهرة سلبية- لجهة نظرة كلٍّ من الطرفين إلى مؤسسة الزواج ونظرة كلٍّ منهما إلى الآخر أيضاً، ومفهومهما، فقد كان من المفترض في ظلِّ هذا الانفتاح أن يكون هناك فهم حقيقي وصادق لدى كلٍّ من الطرفين، وبالتالي ارتفاع منسوب الثقة المتبادلة.

ولأن الزواج في ظلِّ الظروف الاقتصادية الراهنة أصبح عبئاً ثقيلاً على الشباب، لما يحمله من تكاليف لا تتناسب وإمكانياتهم المادية بدءاً من ارتفاع المهور، إلى غلاء أسعار العقارات وأجورها، إضافة إلى تعثّر الكثيرين وعجزهم عن تأمين المستلزمات الأساسية لأسرهم، وكل هذا تحت مظلّة بطالة مرعبة طالت جميع الشرائح والأعمار، إضافة إلى متطلبات هي أقرب إلى مظاهر البذخ، كحفلات الأعراس الخيالية التي باتت الفتاة تطلبها قبل المهر أحياناً، وهذا ما دفع ببعض الشبان إلى صرف النظر عن الارتباط الشرعي والتحوّل إلى ارتباط أسهل وأيسر ولا تكاليف ترهقه كالزواج العرفي مثلاً، مع ما ينطوي عليه من مخاطر كبيرة أول ما تطول الفتاة لأنها الحلقة الأضعف قيمياً وأخلاقياً واجتماعياً.

غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد- الزواج العرفي- بل تعدّاه إلى أمر أكثر خطورةً على الطرفين معاً وهو حالة المساكنة التي بدأت تأخذ حيّزاً غير قليل في هيكلية العلاقة بين الجنسين، ذلك أنه ينطوي على التحرّر من كل قيد ومسؤولية، وفي الوقت نفسه يلبي الاحتياجات الروحية والبيولوجية للاثنين معاً، والمساكنة هي قبول العيش معاً طواعية دون عقد زواج رسمي أو عرفي، بغية تخفيف أعباء الحياة الاقتصادية- حسب زعم الشباب.

إنّ انتشار ظاهرة المساكنة، وإن كانت مازالت بحدودها الدنيا أو المُستترة، قبل أن تساهم في العنوسة أو تأخّر الزواج، فإنها تبتعد بالفتاة إلى ما هو أبعد من مخاطر الزواج العرفي الذي يمكن تثبيته في حال حدوث إنجاب، أما هنا فالحالة بعيدة عن أيّة مظلّة قانونية أو شرعية، إذ صرّح أحد القانونيين سابقاً أن لا نص قانونياً أو تشريعياً يتناول هذه الحالة بعينها، وأن ما قد ينتج عنها من سلوكيات تستدعي تطوير القانون، فقد يرجعون بها حالياً إلى بعض نصوص أو مواد في قانون العقوبات أو سواه. وهنا يُمكننا تلمّس العديد من المخاطر قد تطول الفتاة، إذ تُضطر وحدها لدفع فواتير باهظة الثمن قد لا تنتهي معاناتها مدى الحياة، باعتبارها الحلقة الأضعف سواء في هذه العلاقة أو في المجتمع ككل.

بالمقابل، هناك شباب من الجنسين يرفضون كل هذه الحلول، ربما لعدم القناعة بها أو لنواهٍ دينية وقيمية، لكنهم في الوقت ذاته لا ينجون من عوامل نفسية هي أشدُّ ضرراً على الصحة والفاعلية الحياتية، فالشعور بالوحدة بعد عمر معيّن، وعدم جدوى الوجود عند البعض الآخر لاسيما الإناث، حيث دورة الحياة وفاعليتها لا تكتمل لديهن إلاّ بالزواج والأولاد، وهذه العدمية قد تُحوّل الأيام إلى مجرّد روزنامة تتناثر أوراقها تلقائياً يوماً بعد آخر حتى ينتهي العمر دون فائدة تُرجى، أو ذِكْرٍ يدوم.

ومعلومٌ أن مشكلة العنوسة واحدة من الأزمات والظواهر التي باتت تطرق أبواب المجتمع بشدّة حاملة معها انعكاسات خطيرة على مفهوم الأسرة ومستقبلها، وهي ليست بمعزل عن باقي الأزمات التي يعاني منها المجتمع، نظراً للتشعّبات التي ترتبط بها من الناحية الاجتماعية والاقتصادية وحتى المنظومة الفكرية والأخلاقية التي أصبحت أكثر هزالة وتأثّراً بما يأتي مُعلّباً عبر وسائل التواصل وتقنيات ثورة الاتصالات والمعلومات.

فهل تتنبّه الجهات المسؤولة (أسرة، حكومة، وجمعيات أو مؤسسات معنية) لخطورة الوضع الاجتماعي والقيمي المترتّب على تلك الظواهر، وتعمل جاهدة لمساعدة من يُشكّلون عماد الوطن والمجتمع!؟

العدد 1104 - 24/4/2024