الإقطاعية التقنية: هل هي بديل الرأسمالية؟

لطفية الدليمي:

أسئلة الصغار غالباً ما تكون شديدة الخطورة والأهمية رغم بساطتها الخادعة. الصغار لا يناورون ولا يعرفون أفانين المراوغة. يسألون عن كلّ شيء وأي شيء. قد لا نعير الكثير من الأهمية لأسئلتهم، وقد نحاول الاحتيال عليها والتملّص منها؛ لكننا أحياناً قليلة قد نجتهدُ في تقديم إجابات مناسبة لها. ليس هذا بالأمر اليسير أبداً؛ لكنّ يانيس فاروفاكيس (Yanis Varoufakis)، وزير المالية اليوناني الأسبق وأستاذ الاقتصاد بجامعة أثينا، هو أحد القلّة الذين لم يشاؤوا التفلّت من سؤال ابنته الصغيرة: (لماذا يا أبي يوجد هذا القدر من اللامساواة في العالم؟). اجتهد الرجل بقدر ما استطاع، وكانت النتيجة كتاباً ممتازاً عنوانه (الحديث مع ابنتي: تاريخ موجز للرأسمالية Talking to My Daughter: A Brief History of Capitalism). تُرْجِم الكتاب إلى لغات عديدة (منها العربية). واصل فاروفاكيس مهمته في الكتابة، فنشر عديداً من الكتب المهمّة أحدثُها هو الكتاب المعنون (الإقطاعية التقنية: ما الذي قتل الرأسمالية؟ TechnoFeudalism: What Killed Capitalism). الكتاب منشور عام 2023.

يقدّمُ فاروفاكيس في هذا الكتاب رؤية استشرافية أقلُّ ما يقال عنها إنها جريئة وليست منقادة بدوافع إيديولوجية محضة. جوهرُ رؤية فاروفاكيس أنّ الرأسمالية المعاصرة (النظام النيوليبرالي على وجه التخصيص) هي في طريقها إلى الاندثار، وأنّ معالم هذا الاندثار ليست إحدى الأزمات الدورية الكلاسيكية التي وسمت الرأسمالية منذ نشوئها، ويؤكّدُ أنّ عصر ما بعد أزمة (كوفيد-19) بات يقدّمُ المصاديق لحتمية هذا الاندثار. الرأسمالية تموت.. هذا ما يراه فاروفاكيس، هي الآن تحتضر، وليس موتها سوى مسألة وقت لن يطول كثيراً.

تتأسّسُ رؤية فاروفاكيس على افتراض أساسي: الرأسمالية المعاصرة صارت عاجزة من حيث إنّ ديناميات اشتغالها المعروفة في الأدبيات الاقتصادية لم تعد تعمل مع الاقتصاديات المعاصرة. المسألة ليست شكلية بقدر ما هي تحوّل جوهري تاريخي. الرأسمالية بأكملها (وليس جزءاً منها فحسب) بات يستبدلها نظام آخر مختلف كلياً عنها، هو الإقطاعية التقنية (TechnoFeudalism). في قلب هذا الافتراض تكمن مفارقة ساخرة مُرْبِكة وغير متوقّعة: العنصر الذي قتل الرأسمالية هو رأس المال (Capital)!! وهو ليس رأس المال التقليدي الذي عرفناه في فجر الثورة الصناعية، بل هو نمط جديد من رأس المال الذي نشأ خلال العقدين الماضيين. الأمر أشبه بأن ينقلب السحر على الساحر: يمكن تشبيه الأمر بأنّ الرأسمالية نمّت داخلها فيروساً غبياً واهناً طيّعاً لها، ثمّ حصل أن تغوّل ذلك الفيروس حتى قتل مُضيفَهُ الذي رعاه عقوداً كثيرة. يوضّحُ فاروفاكيس أنّ تطوّريْن جوهريين ساهما في تغوّل الإقطاعية التقنية وانطفاء الرأسمالية النيوليبرالية: خصخصة الشبكة العالمية (الإنترنت) والسيطرة عليها من قِبل عمالقة التقنية الرقمية من الأمريكيين والصينيين، والكيفية التي تعاملت بها الحكومات الغربية والبنوك المركزية مع الأزمة المالية الكبرى عام 2008.

يمتاز عصر الإقطاعية التقنية بأنّ الرأسمال فيه شهد طفرة بات معها يوصف بِـ(الرأسمال السحابي Cloud Capital)، وتلك إشارة إلى الحوسبة السحابية التي صارت الفاعلية الأكثر شيوعاً في العالم الرقمي. هذا المال السحابي قوّض دعامتين أساسيّتين في الرأسمالية الكلاسيكية والنيوليبرالية: الأسواق والأرباح. هذا لا يعني أنّ الإقطاعية التقنية لم تعد تهتم بالأسواق والأرباح، بل إنّ ما حصل فعلاً خلال العقدين الماضيين أنّ الأسواق والأرباح تراجعتا من مكانتيهما في مركز النظام الاقتصادي والاجتماعي لعالمنا، ودُفِعتا دفعاً نحو هوامش مقصودة، ثمّ حصل استبدالهما بالكيفية التالية: الأسواق استُبدل بها المنصات التجارية الرقمية التي تبدو للوهلة الأولى أسواقاً كلاسيكية، لكنها ليست كذلك. هي أقرب لأن تكون إقطاعيات (Fiefdoms). أمّا الأرباح فتمّ استبدالها بالمعادل الإقطاعي، وهو الإيجار (Rent)، (وهو كلفة بضاعتك الرقمية في هذه المنصّات).

ما هي الحصيلة الختامية لهذا الاستبدال الجوهري؟ السطوة الحقيقية في عالمنا لم تعد متمركزة بأيدي مالكي الرأسمال الكلاسيكي من آلات ومصانع وسكك حديد وشبكات هاتف وروبوتات صناعية… إلخ، بل صارت السطوة تتمركز أكثر فأكثر بأيدي طبقة جديدة من لوردات الإقطاعية الرقمية، وهي الأخوات الست العظام (أمازون، غوغل، آبل، ميتا (أو فيسبوك)، مايكروسوفت، تسلا). صارت الأخوات النفطية السبع ذكرى منسية من ماضٍ بعيد.

يتساءل فاروفاكيس في تقديمه المهم للكتاب:

(… هل يؤثّر هذا الأمر على الطريقة التي نعيش بها ونختبر حيواتنا من خلالها؟ بالتأكيد يؤثر كثيراً. إدراكُ حقيقة أنّ عالمنا بات محكوماً بإقطاعيين تقنيين سيساعدنا في تفكيك كثير من الأحاجي – الصغيرة والكبيرة – في عالمنا: من الثورة الخضراء المخادعة وقرار إيلون ماسك شراء منصّة (تويتر)، إلى الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين، وكيف أنّ الحرب في أوكرانيا صارت تهدّد عرش السيادة الدولارية الأمريكية. سنفهم كذلك حقيقة موت الكائن الليبرالي، واستحالة الديمقراطية الاجتماعية، وزيف وعود العملة الرقمية (الكريبتو Crypto)، وقبل هذا وذاك سنستكشف أبعاد التساؤل الممض الذي لم يزل يتأجج في دواخلنا: كيف السبيل لاستعادة استقلاليتنا، وربما حريتنا…).

كما ذكرتُ سابقاً، كتب فاروفاكيس كتابه الخاص بمختصر تاريخ الرأسمالية على شكل إجابة مطوّلة لتساؤل ابنته، ويبدو أنّ هذه المقاربة السردية قد استأنس لها (وأظنّ أن كثرة من القرّاء شاركوه هذا الاستئناس وأنا منهم)؛ لذا عمد إلى توصيف عصر الإقطاعية التقنية الحالية بهيئة رسالة مطوّلة كتبها إلى أبيه المتوفّى، جواباً عن سؤال كان أبوه قد طرحه عليه عام 1993. بعد مقدّمة مكثفة يأتي متن الكتاب في سبعة فصول، يشرح فاروفاكيس في الفصلين الأوّلين منها التاريخ الكلاسيكي للرأسمالية (تحوّلات الرأسمالية على وجه التحديد)، ثمّ يتناول في الفصل الثالث مفهوم رأس المال السحابي، ثمّ يعقبه في الفصل الرابع نشأة وصعود سطوة السحابيين (The Cloudists)، وخفوت مفهوم الربح الكلاسيكي، ثمّ يتناول في الفصلين الخامس والسادس التأثير العالمي المتعاظم للإقطاعيات التقنية ودورها في الحرب الباردة الجديدة، ثم يخصص الفصل الأخير (السابع) للحديث عن الوسائل المناسبة للهرب من سطوة الإقطاعيين الرقميين. يرفد فاروفاكيس كتابه بملحقات ثلاثة تثري الموضوع الرئيسي للكتاب بإضاءات إضافية.

لن أخفي إعجابي بكتابات فاروفاكيس، وأظنّه يستحقّ هذا الإعجاب، خاصة أنّه يقدّمُ الموضوعات الاقتصادية في سياق تاريخي – اجتماعي – سياسي مركّب، وليس كتلةً معلوماتية/ تقنية صلدة، لكنّ هذا الإعجاب ينبغي ألا يتحوّل إلى قناعة راسخة بكلّ أطروحات فاروفاكيس. نحن في النهاية نقرأ ونتساءل ونستكشف ونقارن ونتعلّم. كثيرون يرون أنّ فاروفاكيس يكتب من واقع تجربته المرّة مع الاتحاد الأوربي الذي يرى أنه سعى لإذلال اليونان ودفعها لتطبيق شروط تقشف صارمة، وآخرون يرون أنّ فاروفاكيس يظل تلميذاً مخلصاً لنزوعه السياسي الماركسي الملطّف بنكهة عقلانية عملية، لكن القارئ الحيادي سيتعلّم كثيراً من أطروحات فاروفاكيس. هي في النهاية ليست إيديولوجيا ملزمة لأحد منّا. أهمّ ما نتعلّمه من أطروحة فاروفاكيس هو أنّ النظم الاقتصادية العالمية ما عادت صناعة إيديولوجية خالصة، بل إنّ التقنيات صارت هي العنصر الحاسم في تشكيلها. هذا ما يجب أن ننتبه إليه في عالمنا العربي بخاصة.

(الشرق الأوسط)

العدد 1104 - 24/4/2024