تمرد محكوم بالفشل إلى حين

حسين خليفة:

تتكرّر في الموروث الشعبي، الذي يعبر عن حقيقة الناس بعيداً عن القيود العقائدية والمجتمعية، فكرة معاناة الفرد ذكراً أو أنثى من قيود الزواج، بما هو ارتباط أبدي وملزم بشخص مدى الحياة، بسبب الميل الطبيعي/ الغريزي للإنسان إلى التعدّد والتنوع، لكن ما إن يأتي الحديث إلى (الجدّ)، وهو الكلام (الرسمي) الرصين المحسوب على قائله، حتى تجري إعادة ترديد المُسلّمات الدينية والاجتماعية من قدسية العائلة والالتزام الأُسري الصارم مع الزوجة والأولاد تباعاً.

هذه الازدواجية التي نحياها جميعاً تحضر بقوة عندما نريد مناقشة قضية مهمة وحساسة وراهنة كقضية المساكنة التي بدأت تدق أبواب مجتمعاتنا المحافظة، وإن كانت بخجل ومواربة، بسبب عوامل عدة منها الانفتاح الثقافي على العالم الغربي المتحرر من التابوهات والملتزم بحرية الفرد في خياراته الشخصية ضمن إطار القانون الوضعي القابل للتعديل والتبديل حيثما ومتى ما دعت الحاجة، وتُضاف إليها الظروف الاقتصادية الضاغطة على الناس في مجتمعنا، والتي تجعل الزواج وتأسيس أسرة حلماً بعيد المنال لكثير من الشباب الراغبين بذلك.

لا أعتقد أن المساكنة يمكن أن تتحوّل إلى ظاهرة اجتماعية أو حتى تدخل في التداول قانونياً، لكنها كحالات فردية بدأت تتسلّل بخجل وسرية تامة إلى حياتنا، ربما هي إرهاصات لما سيأتي، لا محال، من تجاوز لكثير من التابوهات والمعتقدات التي مضى عليها قرون، ومن سنّة الحياة أن يعاد النظر فيها، إذ لا يُعقل أن تبقى شرائع وقوانين وقيم تحكم مجتمعاتنا لقرون طويلة دون أن يستطيع أحد المساس بها أو مجرد مناقشتها.

الزواج الأحادي المُقدّس هو نتاج للأديان السماوية التي شهدها الشرق وحَكَمته منذ بدء الدعوة لها، وأعتقد أن الأديان الأخرى غير السماوية كالبوذية مثلاً التقت مع الأديان السماوية في تقديس فكرة الزواج والعائلة لغاية استمرار الجنس البشري وحمايته من الانقراض أولاً، وتنظيم العلاقات الإنسانية والجسدية بين الذكور والإناث ثانياً.

لكن، لنلقِ نظرة سريعة على كيفية تنظيم هذه العلاقة في مجتمع الجزيرة العربية مثلاً.

كانت هناك أنواع عديدة من الزيجات (النكاح) في مجتمع الجزيرة العربية قبل الإسلام، الذي يسميه الإسلاميون بالمجتمع الجاهلي، في محاولة أيديولوجية بحتة لتصوير ما قبل الإسلام بأنه ظلام دامس، ثم جاء الدين الجديد ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، في حين أن الحقيقة هي أن معتقدات أهل الجزيرة العربية كانت امتداداً طبيعياً تاريخياً لمعتقدات الشعوب التي سبقتهم لجهة تعدد الآلهة، كما جاء الإسلام امتداداً واستكمالاً وتطويراً في حينه للأديان السماوية السابقة له. وكانت الجزيرة العربية ميداناً لنشاط تجاري واقتصادي وفكري لا يستهان به قبل الإسلام.

نعود إلى أشكال العلاقة بين الذكور والإناث في ذلك المجتمع:

أولاً_ الزواج الطبيعي الذي يعرفه الناس اليوم وهو أن يتقدم الرجل لطلب الاقتران بامرأة إلى ذويها ويقدّم لها الصداق (المهر) ليتزوجها.

ثانياً_ ما كان يُسمّى بنكاح الاستبضاع، وهو أن يُرسل الرجل زوجته إلى رجل آخر لتمارس معه الجنس خلال فترة الإخصاب حتى تحمل منه، ثم تعود إلى زوجها، وكان الهدف من ذلك تحسين النسل، إذ كان يتم اختيار رجال بمواصفات جسدية أو عقلية أو اجتماعية مميّزة.

ثالثاً_ نكاح الرهط، وكان فحواه أن تدخل المرأة في علاقة مع بضعة رجال معروفين (الرهط ما لم يتجاوز العشرة) ثم حين يحدث الحمل لديها يُستدعى الجميع إلى المرأة ويلتزمون بالحضور، ثم تشير المرأة إلى أحدهم لتختاره أباً لوليدها فيلتزم بذلك.

رابعاً_ نكاح البغايا أو (صاحبات الرايات) كما كان يُطلق عليهن، إذا ترفع المرأة التي تمارس البغاء راية خاصة بهذه المهنة على باب خيمتها لتستقبل فيها من يشاء من الرجال ممارسة الجنس المأجور معها دون أن تتعرض لأي عقاب مجتمعي أو قانوني، أي دعارة مقوننة كما هو دارج في كثير من المجتمعات المعاصرة.

وكان هناك أيضاً نكاح الضيزن (أن يرث الولد زوجة أبيه بعد وفاته) ونكاح المتعة ونكاح السبي ونكاح البدل ونكاح الإماء ونكاح الخدن ونكاح المضامدة وغيرها.

ومن المعروف أن نسبة الفرد كانت إلى الأم في كثير من مجتمعات الجزيرة العربية قبل الإسلام وتعبير (صلة الرحم) هو ترجمة حرفية لهذا المعنى أي الانتساب إلى الأم، لأن المرأة كانت تتزوج من أكثر من زوج وإذا حملت ولم يُعرف والد الوليد كان يُنسب إلى الأم.

كما كان يحدث أيضاً في حالات الغزو والاعتداء الجنسي على النساء من قبل الغزاة، فيولد أطفال مجهولو النسب وينسبون إلى أمهاتهم، وكثير من الأفراد والقبائل في الجزيرة العربية كانوا ينسبون إلى أمهاتهم مثل: بنو مزينة، بنو رقية، بنو بجيلة وغيرهم.

لكن مع قدوم الإسلام دانت السلطة كاملة للرجل وانتهت آخر أشكال المجتمع الأمومي هذه.

إذاً، لم يكن شكل العلاقة بين الرجل والمرأة محصوراً بمؤسسة الزواج التي أقيمت بشكل أساسي كما أسلفنا للحفاظ على بقاء الجنس البشري أولاً، وتثبيت الإرث والثروة بيد العائلات.

ولعلَّ ما سُمّي بنكاح الخدن يشبه كثيراً حالة المساكنة في عصرنا، فكان هذا النوع من الزواج قائماً على أن يتخذ الرجل أو المرأة خديناً (خليل أو خليلة) دون أن يلتزم بأيٍّ من موجبات الزواج.

بعد هذه الإطلالة الطويلة نسبياً على أنواع العلاقات وتعدّدها في مجتمع الجزيرة العربية الذي خرج الإسلام منه وانتشر، نتساءل:

هل يمكن أن يأتي يوم تصبح فيه حالة المساكنة القائمة على اختيار حر للعيش معاً بين رجل وامرأة دون عقد زواج حالة مقبولة اجتماعياً ومقوننة؟!

أعتقد أن الأمر مستحيل في المدى المنظور وضمن هذه المجتمعات المُغلقة والخائفة من أي جديد، مع ضرورة الإشارة إلى أن الشكل الحالي للزواج التقليدي والعائلة هو الذي سيبقى إلى أمد طويل الشكل السائد في حين تبقى حالات المساكنة هي حالات تمرّد فردي سرية ومحفوفة بالخوف من عقاب المجتمع والأهل ونظرتهم السيئة إليها، ومؤقتة غالباً، ليعود كل طرف بعدها إلى حضن المجتمع والعائلة.

أراها أقرب إلى (نزوات شباب) لا تلبث أن تنطفئ، لكنها حتماً تدخل في باب الحريات الشخصية التي لا يحقُّ لأحد التدخل فيها أو منعها أو شيطنة أصحابها، فكل إنسان مسؤول عن خياراته ومصيره في النهاية، وتبقى أفضل من حالات العلاقات السرية المليئة بالكذب والخيانات والمحفوفة بالخطر.

وربما يأتي يوم تقونن فيه هذه الحالات وتصبح شكلاً من أشكال الحياة المجتمعية، لكني أراه بعيداً وبعيداً جداً في ظلِّ هذا المد الماضوي الأصولي في مجتمعنا بكل أديانه وطوائفه.

العدد 1104 - 24/4/2024