واشنطن وإسقاط القيم في السياسة

د. صياح فرحان عزام:

من الطبيعي والمفترض أن تشكّل القيم، بما تعنيه من أخلاق والتزام بالمعايير والقوانين الدولية الإنسانية والمبادئ الديمقراطية، العمود الفقري للسياسة في تحقيق الدور المنوط بها في العلاقات الدولية والتعامل مع التحديات التي تواجه العالم، سواء كانت سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو بيئية.. إلا أن واقع الحال الذي يعيشه العالم يقول: إن معظم دول العالم وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية، تجعل مما تسمّيه (المصلحة الوطنية) وعلاقاتها وتحالفاتها الخارجية أولوية مطلقة تعلو على هذه القيم الأخلاقية، تنفيذاً لمقولة (ميكافيلي) (الغاية تبرر الوسيلة)، وهي بذلك تتخلى عن كل ما تنادي وتتبجح به من التزام بالديمقراطية وحقوق الإنسان والقانون الدولي.

لماذا تقوم بذلك؟

دون شك ما يدفعها إلى ذلك هو إعلاء ما تسميه المصلحة الوطنية كمحدد أساسي على كل ما عداها، الأمر الذي يجعل من السياسة معدومة الدسم، ويُفقدها قيمتها كأداة فعالة في العلاقات الدولية.

يمكن تعريف القيم الإنسانية على أنها الأخلاقيات والمبادئ التي نشأ عليها الإنسان، والتي تضع له القواعد الأساسية لتعاملاته مع الآخرين، وتشمل هذه المبادئ العدل والمساواة والحرية والكرامة والتسامح والتنمية المستدامة، وبالتالي فإن ما ينطبق على الفرد ينطبق على المجتمع وعلى الدولة وسياساتها.

لذلك من الأهمية بمكان أن يتحقق توازن دقيق في السياسة بين المصلحة الوطنية والقيم بمعناها الشامل، وأي خلل على حساب القيم يجعل من السياسة أداة للهيمنة (كما يجري من قبل الغرب) وأداة للاستبداد والظلم، وقد تتحول إلى وسيلة في خدمة الحرب والعدوان كما في حرب فيتنام، وغزو أفغانستان واحتلال العراق، وكما هو الآن في الحرب الصهيونية الهمجية على قطاع غزة، حيث كما نرى أن معظم الدول الغربية تقف دون حق إلى جانب كيان الاحتلال الإسرائيلي، متذرعة بما تسمّيه حق (إسرائيل) في الدفاع عن نفسها، وما من شك في أن موقفها هذا يشكل تخلياً واضحاً عن كل المبادئ والقيم التي ارتضاها العالم واتفق عليها كهدف أسمى يجب أن يحكم العلاقات الدولية ويعزز الأمن والسلام في العالم.

في كتابه (هل الأخلاق مهمة في السياسة الخارجية)، يحدد الباحث السياسي الأمريكي جوزيف ناي، مبتدع مصطلح (القوة الناعمة والقوة الخشنة) ثلاثة أبعاد للمنطق الأخلاقي: أولاً، الهدف أو النية من الفعل السياسي، ثانياً، الوسيلة أو الآلية التي يتم من خلالها تنفيذ الهدف، وثالثاً، النتيجة التي تحصل من ذلك.

ومن الواضح أن ما تفعله الولايات المتحدة هو أنها تستند في تنفيذ الأبعاد الثلاثة في سياساتها إلى منطق القوة والهيمنة والنفوذ والسيطرة، وهو ما يظهر بوضوح في دورها في الحرب الأوكرانية من حيث الدعم العسكري والمادي والسياسي لنظام كييف، وكذلك في علاقاتها الاستفزازية مع الصين ومحاولات حصارها اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وتوتير الأوضاع في تايوان وبحر الصين الجنوبي، بهدف منع قيام نظام دولي متعدد الأقطاب بدلاً من النظام الأمريكي الأحادي الحالي.

وبالتالي، حوّلت واشنطن العالم إلى ساحة تحكمها الفوضى والحروب ومنطق القوة، وجعلت من الأمم المتحدة هيئة اسمية عاجزة عن فرض قوانينها وقراراتها.

العدد 1104 - 24/4/2024