أردوغان.. وما خفي أعظم!

د. نهلة الخطيب:

توقيت المواجهة، بين حركة حماس واسرائيل، جاء في ظل تحول في السياسة الخارجية التركية، بالتخلي عن جماعات الإسلام السياسي، لا سيما الإخوان المسلمين، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل ومصر، ودول الخليج العربي. حاول رجب طيب أردوغان لعب دور المحايد في الأيام الأولى للحرب في غزة، لرغبته عدم تعريض علاقته بإسرائيل للخطر، بعد سنوات من الجفاء ظاهرياً، وفي الوقت نفسه الحفاظ على دعم القضية الفلسطينية (حصان طروادة)، فقدم نفسه كوسيط سلام محتمل، تجاهلته إسرائيل، فارتفع مستوى الخطاب، بعد فشل محاولته الدخول كوسيط، واستثناء بلينكن لتركيا من جولاته في المنطقة، لعل ذلك الفشل، ولإنعاش صورته العالمية، دفع أردوغان لإدانة الجيش الإسرائيلي، واعتبار إسرائيل دولة إرهابية، وحماس حركة تحرر، تقاتل من أجل الشعب الفلسطيني، واسترجاع الأراضي المحتلة، فماذا فعل أردوغان خليفة المسلمين لإغاثة غزة؟!

أردوغان، الذي حمل راية الإسلام للوصول إلى مبتغاه، وتحقيق حلمه العثماني الجديد، استطاع بالوعود والأكاذيب، اقناع الشعب التركي أنه من خلال الهوية الإسلامية، يمكن لتركيا أن تعيد أمجاد الأمة. وأدرك أردوغان تراجع الهيمنة الغربية في السياسة العالمية، فحاول لعب دور إقليمي مركزي، وتظاهر بصنع السلام، وانخرط في توازن جيوسياسي بين الخصوم، فاستفاد من علاقات حكومته مع مجموعة من الجهات الفاعلة دولياً، بينها روسيا والصين. اتُهم في صحيفة ليبراسيون الفرنسية، بالبراغماتية، وتقلّب مواقفه، التي تتكيف مع المناخ السياسي العالمي، ربما هذا نراه جلياً في سعيه للانضمام للاتحاد الأوربي، ثم انتقاده له، وتغيير سياسته من صفر مشاكل مع دول الجوار التركي، والمنطقة العربية عموماً، بعد ظلم قرون للعرب، إلى تدخل عسكري واعتداء على السيادة لبعض الدول، فضلاً عن سياسة التعامل مع الأكراد، إذ فتح أردوغان الباب للحوار، وإحياء تراث أجدادهم، إلى تبني نهج التشدد معهم وقتل العُزل دون محاسبة دولية.

تركيا عضو بحلف الناتو، ومع ذلك التزام أردوغان بالتحالف متقلب، فهو معترض على انضمام السويد لعضوية الناتو، مناورة للابتزاز السياسي، ربما هذا كان أحد أسباب الاهتمام الأمريكي بتركيا مؤخراً، بأن كانت الوجهة الأولى لوزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن، في زيارته الرابعة للمنطقة عقب الحرب في غزة، وربما لمناقشة مرحلة ما بعد الحرب، ولتخفيف التراشق الكلامي، بين الشريكين الاستراتيجيين لأمريكا، أردوغان ونتنياهو، اعتبر الأول أن ما يفعله الأخير لا يقل عما فعله هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، فرد نتنياهو أن أردوغان الذي يرتكب إبادة جماعية ضد الأكراد، ويسجن الصحفيين، هو آخر شخص يمكنه أن يعظنا بالأخلاق.

هو تراشق كلامي فقط، هذا هو التقلب، والنفاق السياسي الذي يتسم به أردوغان، فكلما كانت هناك منافع دعائية، أو سياسية، انبرى لها بحماس. يدرك أردوغان أن تكاليف التضامن مع حركة حماس، واثارة غضب إسرائيل، ستكون باهظة عليه، وخاصة عندما تشعر إسرائيل بأن وجودها نفسه صار مهدداً. فأردوغان يتبنى خطاب ظاهرة متشددة حيال إسرائيل، وباطنه يميل إلى التعاون، لأن العلاقة بين تركيا وإسرائيل متينة ذات بعد استراتيجي، فالمصالح العسكرية والاقتصادية والتجارية، والرحلات الجوية، وإمدادات النفط عبر المضيق إلى إسرائيل، مازالت مستمرة، ومهما تدهورت العلاقات السياسية بينهما، لن تؤثر بشكل جذري على العلاقات الحميمة، والمصالح المشتركة للطرفين، أليس عزرا وايزمن من أكد هذه الحميمية منذ زمن بعيد: (إن مستقبل الشرق الأوسط يعتمد على تركيا وإسرائيل).

أردوغان أخر من يمكنه أن ينتقد إسرائيل، أو يقطع علاقته بها، لرغبته بدور محوري في مشروع الشرق الأوسط الكبير، وهو ما يتفق ورؤية هنري كسنجر التي طرحها عام 1995 والتي تقول: (إن تركيا يجب أن تكون دولة محورية بالشرق الأوسط)، طبعاً الشرق الأوسط الجديد الذي سوّق له نتنياهو، والذي يقوم على أنقاض دول ودماء عربية، لطمس الهوية القومية، فالدور التركي جزء أساسي في هذا المشروع باعتراف أردوغان نفسه في لقاء أجراه عام 2006: (لقد أصبحنا جزءاً لا يتجزأ ممن يتزعمون مشروع الشرق الأوسط الكبير، ومشروع شمال إفريقيا)، مشروع بوش الذي جعل فيه تركيا عموده الفقري، والمستهدف فيه كل العالم العربي.

جاء في صحيفة ديلي تيلغراف: (من المستحيل الإعجاب بالرئيس التركي، لكن لابد من الاعتراف بأنه جعل من نفسه قائداً مفيداً جداً). أردوغان الرهينة الأمريكية، ينشر الدرع الصاروخي الأمريكي، ومئات القواعد العسكرية الأطلسية، ومراكز الرصد والإنذار، وقواعد التجسس على أهم الموانئ التركية، وحدث بلا حرج، سيف مسلط على دول الطوق الإسرائيلي، ويسمح السيطرة على معظم الطرق الجوية والبرية المباشرة بين الدول العربية، والسيطرة على منابع النفط في الخليج، أليس هو من يقاتل غزة بمحاصرة سورية، واحتلال آلاف الكيلومترات من الأراضي السورية، وانتهاك سيادة العراق باستهداف المقاتلين الأكراد، والهدف أبعد، للسيطرة على حقول النفط العراقية، وكأن ما يفعله في سورية والعراق وليبيا، ليس من مصلحة أمريكا واسرائيل، فهذا التقلب والعربدة لا تجري دون موافقة ومباركة القوى الامبريالية والأمريكية، أردوغان منح أضواء خضراء كافية لأن يؤدي ما يخدم استراتيجية القطب الأوحد أمريكا، التي تعتبر نفسها منفردة بمقدرات العالم، أليس هو القرن الأمريكي!؟

نحن أمام مرحلة جديدة خارج تحركات الإسلام السياسي، ويعلم أردوغان ما يناقش في الغرف السرية للمفاوضات، لاحتواء التداعيات الكارثية للحرب، هي حرب قد تتحول إلى صراع كبير، تعيد تشكيل الجغرافيا السياسية والاقليمية من جديد، وقد يكون اليوم التالي للحرب أكثر فظاعة من أيام الحرب، وتركيا لن تكون بمنأى، وستطولها الفوضى الجيوسياسية في المنطقة، لكن ينظر لها أردوغان على أنها عثمانية جديدة، ويحاول ضمان أن يكون له دور أكبر في وضع جديد يتماشى في شكل الشرق الأوسط بعد الحرب.

فالحرب في غزة وضعت أردوغان في امتحان صعب، وبدا واضحاً أن الأمريكيين يخافون على إسرائيل أكثر مما يخاف الإسرائيليون عليها، فماذا لو طلبت أمريكا من أردوغان التخلي عن حماس، ووضعها في لائحة الإرهاب، فهل سيفعلها أردوغان؟؟ نعم.. فغزة عرّت الجميع.

العدد 1105 - 01/5/2024