قلّةُ أدب

عبد الرزاق دحنون:

لفت انتباهي ما قاله المؤلف الموسيقيّ والمغني المصريّ الضّرير مُصْطَفَى سَعِيد في سياق تقرير بُثّ عبر شاشة (بي بي سي) بنسختها العربية في جواب عن سؤال حول مصطلح الأغاني الإباحيّة في العالم العربيّ. قال:(مصطلح الأغاني الإباحيّة لم يظهر إلا في العقد الثالث من القرن العشرين، قبل هذا كان هذا الغناء من جزئيات الرصيد الغنائيّ، وكان يستعمل تثقيفاً مرّة وكان يستعمل تعبيراً في مرات أخرى. حَجْر التعبير عن المشاعر هو الذي أدّى فيما بعد إلى الحَجْر على التعبير عن الرأي في طرح من السلطة إلى إملاء أن هذه الدولة يجب ان يكون عندها أدب، بمعنى الاستتار، بمعنى هذا الكلام الفاحش، لا يجوز، هذا المنع هو قرين النظم الاستبدادية التي ظهرت بُعيد الحرب العالمية الأولى. أنت ممنوع تعبّر عن مشاعرك، ممنوع تعبّر عن رأيك في الحكومة، ممنوع تقول رأيك السياسي في أغنية، ممنوع تقول مشاعرك الجسمانية، وتزيد هذه الممنوعات في المجتمعات التي تحكمها طبائع الاستبداد).

قياساً على رأي المغني والملحّن المصريّ مُصْطَفَى سَعِيد، الّذي يحمل مصادفة اسم بطل رواية الروائيّ السودانيّ الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، سأشدّ عنان راحلتي مع مُصْطَفَى سَعِيد بطل الرواية وأعود معه هذه المرّة في هجرة معاكسة من الشمال البارد إلى الجنوب الدافئ، إلى زمن آخر، وتراني سأسلك الطريق إلى مدينة البصرة في جنوب العراق في زمن أوائل القرن الثاني الهجريّ حيث كان يعيش عمرو بن بحر، أبو عثمان، المشهور بالجاحظ، حيث ترك أكثر من مئة وسبعين كتاباً. وساعده على كثرة التأليف امتداد عمره، وانصراف الحكّام وأهل الدولة عن استخدامه في قصورهم ودواوينهم لدمامة وجهه ومرضه الطويل الذي اضطرّه إلى ملازمة بيته وقطع فراغه بالكتابة والتأليف. ومازال الجاحظ في علّته إلى أن وقعت عليه مجلدات العلم، فقضت عليه في البصرة نهاية سنة 255 هجرية.

وعلى فكرةن أعترفُ علانية بأنّني تتلمذتُ وتعلمت من أبي عثمان الشيء الكثير مع بُعد المسافة الزمنية بيننا، ولكن علينا ألا ننسى بأنه طُلب منّا أن نطلب العلم ولو في الصين.

تعبثُ في كتب الجّاحظ بحثاً وتنقيباً فتجد أنّه التقط صوراً من قلّة الأدب الشعبي تحكي بلسان فصيح فضّاح حال المجتمع في زمانه، وقد قيّدها في كتبه المنوّعة، في سياق سرد جميل يخلب اللباب، ويُحرّك المشاعر المكبوتة في النفس الإنسانيّة. ويعلم الله أنني عانيتُ حتى اهتديتُ إلى الصيغة التي تكون مقبولة في طيّات هذا المقال، واخترتُ على كل حال الألفاظ الأكثر أدباً في يومنا هذا، واستبعدت تسمية تلك الأشياء المخفيّة، الحميمة، عند الرجل والمرأة على حدّ سواء، بمسمّياتها الشعبيّة التي استعملها الجّاحظ وغيره. ومن يريد من القراء- وكان حشرياً يدسُّ أنفه في كل شاردة وواردة- فيجدها في مظانّها. وأسأل كيف استطاع الجّاحظ وغيره رواية مثل هذه الحكايات في كتبهم؟ وهل كان زمنهم أكثر حرية من زمننا الأغبر هذا؟ كيف سنحت الفرصة للناس في تلك الأيام التعبير عن مشاعرها بهذه الأريحيّة ونحن اليوم نتلعثم في الحديث والكتابة، ولا ندري كيف نتدبّر أمرنا؟!

قال الجاحظ في رسالة مفاخرة الجواري والغلمان: (كانت خُليدة امرأة سوداء ذات خلق عجيب، وكانت لها دارٌ بمكّة تكريها أيام الحج، فحجّ فتىً من أهل العراق، فاكترى منزلها، فانصرف ليلة من المسجد وقد طاف فأعيا، فلما صعد السطح نظر إلى خُليدة نائمة في القمر، فرأى أهيأ الناس وأحسنه خلقاً، فدعته نفسه إليها فدنا منها، فتركته حتى رفع رجليها فتابعته وأرته أنها نائمة، فضاجعها، فلما فرغ ندم فجعل يبكي ويلطم وجهه، فتعاربت وقالت: ما شأنك؟ لسعتك حيّة؟ لدغتك عقرب؟ ما بالك تبكي؟ قال: لا والله ولكني ضاجعتك وأنا محرِم! قالت: تضاجعني وتبكي؟ أنا والله أحقّ بالبكاء منك. قم يا أرعن!).

وأنا هُنا هذَّبتُ اللفظ وشلت منه قلّة الأدب ولو تركت الحكاية كما رواها الجاحظ بألفاظها في رسالته لقامت القيامة وفار التنّور واتهمتُ بالقذف والتشهير بأعراض الناس ورفع أحد المحامين الغيورين على الدين والدنيا دعوى قضائية ضدّي وجاء عسس الحكومة يحملون الأصفاد وقبضوا عليّ وقيدوني بالجرم المشهود. لا يا سيدي لا أريد ذلك، دعنا نكمل مقالنا هذا على خير!

ثمّ يقول الجّاحظ في مكان آخر: كانت في المدينة المنورة امرأةٌ ماجنة يقال لها سَلَّامة الخضراء، فأخذت مع مخنّث وهي تلوطه بكيرنج -قضيب اصطناعي- فرفعت قضيتها إلى الوالي، فأوجعها ضرباً وطاف بها المدينة على جمل، فنظر إليها رجل يعرفها فقال: ما هذا يا سَلَّامة؟  فقالت: بالله اسكت، ما في الدنيا أظلم من الرجال، أنتم تنكحوننا الدهر كله فلما نكحناكم مرة قتلتمونا!

انظر ما أجمل أن يوثِّق لنا الجّاحظ هذه المعلومة التي لا تخطر على البال، ولم يوثقها غيره فيما أعلم، عن جدّ فرحت حين قرأتها لأن فيها من الدلالات الشيء الكثير. وتذكّر أن هذه الواقعة حدثت قبل أكثر من ألف عام في المدينة المنورة في الجزيرة العربية! والشيء بالشيء يذكر فقد كنتً من سنوات مضت عند أحد الأصدقاء الملتزمين دينياً في مدينة دوما من ريف دمشق أنظر في مكتبته الإسلامية الغنية، فلمحتُ على أحد الرفوف كتاب (المخلاة) من تأليف بهاء الدين محمد بن الحسين العاملي-من جبل عامل في لبنان- تناولته، وقلتُ لصاحبي ما لك ومخلاة العاملي؟ ورحت أقلب صفحاته حتى توقفت عند ملحة فيها قلّة أدب، قلت لصديقي اسمع هذه: جاء شحاذ إلى باب أحد الميسورين من التجار، طرق الباب، ففتح له ربّ الدار. فقال الشحاذ:

-من مال الله!

أجاب ربّ البيت:

-أمّ العيال خارج البيت.

ردّ الشحاذ:

-اطلب شيئا آكله لا شيئا أنكحه.

غشي صديقي من الضحك، وبعد أن عاد إلى رشده، استحلفني هل هذا ما جاء في الكتاب أم أنني مؤلف الحكاية؟ أريته موضعها فاستغرب الأمر. كيف يكون ذلك في كتاب تراث إسلامي. قلتُ: هوّن عليك يا صديقي، كتب تراثنا الإسلامي، التي تظنها رصينة رزينة، متخمة بهذه التعابير والحكايات التي تعكس بصدق نمط الحياة الذي كان سائداً حينذاك، وستجد الكثير منها في كتب التفاسير والحديث والكشاكيل وكتب الأمثال ومرويات العرب وكتب الملح والنوادر وألف ليلة وليلة. وهي كثيرة عند أبو عثمان الجاحظ وأبو حيان التوحيدي والميداني في مَجمع الأمثال والراغب الأصفهاني في محاضرات الأدباء، وغيرهم كثير. وهذه الطبعات الحديثة من كتب تراث الحضارة الإسلامية في عصرنا هذا والموسومة أغلفتها بعبارة (طبعة مُهذّبة) ما هي إلّا حذف قلَّة الأدب التي تخدش الحياء العام، والتي تلتزمها الدول حيث تراها مُخلة بالأدب، والحكومات تحذفها حفاظاً على العلاقات الاجتماعية المؤدبة بين البشر في الدولة المُهذّبة. وطبعاً الناس في الشارع العام لا تلتزم هذا الأدب في حديثها اليومي فتراها تشتم الحكومات ورؤساء الجمهوريات والملوك والسلاطين بعبارات فاحشة لا نستطيع ذكر بعضها هُنا على كل حال. أصلحهم وأصلحنا الله وإياكم، ودعونا نكمل مقالنا على خير.

لم يلتزم المفكر والباحث العراقيّ الراحل هادي العلويّ البغداديّ بهذا التهذيب في كتابه (المستطرف الجديد) مختارات من التراث، الّذي جمع فيه خلاصات مهمة من شؤون الناس في العصور الإسلامية المختلفة. وفيه نقلاً عن الأغاني لأبي الفرج الأصفهانيّ: (بلغ عبد الله بن الزبير أن أخاه مصعب وكان قد استولى على العراق، وقد تزوج امرأتين من حسناوات قريش وأعطى كلّ واحدة منهما مليون درهم. فقال: إنَّا بعثنا مصعباً إلى العراق فأغمد سيفه وسلّ قضيبه). وفي حكاية كيف قُتل الشاعر هُدبة بن خشرم؟ يقول: (قَتَلَ هُدبة بن خشرم رجلاً فجيء بالشاعر للقصاص. وعرض أهل هُدبة بن خشرم دية ضخمة لإنقاذه من القتل- القاتل يُقتل- وكاد ابن القتيل أن يوافق، فقالت له أمه على رؤوس الأشهاد: أُعطي الله عهداً لئن لم تقتله لأتزوجه فيكون قد قتل أباك ونكح أمك. فقتله بعد حين).

وجليس كتب التراث كحامل المِسْكِ إمّا أن تبتاع منه وإمّا أن تجد منه ريحاً طيباً، وقد وجدتُ عند الميداني في مَجمع الأمثال عالماً غنياً من البشر الذين خاضوا في الحياة خوض مُدرك عارف بحقائقها. ولعل حكاية دلال وقومه تدلّ دلالة لا لبس فيها على سعة الحياة التي كتب عنها الميداني: دلال من مخنّثي المدينة، واسمه نافذ، وكنيته أبو يزيد، وهو ممن خصاهم خطأ ابن حزم الأنصاري أمير المدينة في عهد سليمان بن عبد الملك. تقول الأخبار المروية في عدد من كتب التراث: جاء أمر الخليفة إلى ابن حزم عامله أن أَحصِ لي مخنثي المدينة! (أُحْصِ بالحاء)- فتشظّى قلمُ الكاتب فوقعت نقطة على ذروة الحاء فصيرتها خاء، فلما ورد الكتاب المدينة ناوله ابن حزم كاتبه فقرأ عليه: اخْصِ المخنثين. فقال له الأمير:

– لعلّه أحص بالحاء؟!

فقال الكاتب:

– إن على الحاء نقطة مثل تمرة.

فتقدم الأمير في إحضارهم، ثم خصاهم، وهم: طويس، دلال، نسيم السحر، نومة الضحا، برد الفؤاد، ظل الشجر.

وجود هؤلاء القوم في بواكير المجتمع الإسلامي الناهض يدفعنا لتأكيد فكرة جوهرية وهي عندما ترافق الإسلام مع بنية حضارية قائمة اتسعت دائرة الحرية لتشمل العلاقات الإنسانية التي تحترم الآخر مهما كان هذا الآخر. ونحن هنا لا نؤكد صحة الرواية لأنها تقترب من صيغ الحكايات، ولكنني أعتقد أن لها سنداً في الواقع. ويؤكد هادي العلويّ البغداديّ في هذا السياق اندماج القيم الجاهلية مع المدنية الإسلامية الجديدة، وكان لهذه القيم حضورها الفاعل في جميع زوايا العصور الاسلامية. وقد توقفت الفعالية الحضارية للمدنية الإسلامية عن التطور مع القرن الثامن الهجري، ودخل العالم الإسلامي في استعصائه الذي لا يزال حتى اليوم. وتوقف الحضارة لا يمحوها وإنما يحوّلها إلى تراث. والتراث من الإرث الذي يعني موت المورّث مع بقاء ميراثه، بحكم أن الموت انقطاع عن الحياة وليس عن الوجود. ولما كانت الحضارة الإسلامية قد وجدت فالعدم لا يسري عليها، لكنها ماتت فخلفت لنا هذا الإرث الواسع. وليس الدين الإسلامي من مورثات هذه الحضارة لأنه الآن حيّ. والدين بجوهره مباين للحضارة فهو يعيش معها ودونها.

لو نظرت في حكايات النساء الوافرة التي وردت في مجمع الأمثال ستجد إضافة إلى الطرافة ظاهرة جميلة موحية جديرة بالتنويه وهي وجود المرأة الصاخب في جميع مفاصل المجتمع الناهض المتحرك مع القيم الحضارية التي يلهج بها، على عكس ما يٌشاع عن ضيق المساحة التي كانت تتحرك فيها المرأة العربية. بمعنى توافق وتطابق بين طرفي الفعل الإنساني الذكر والأنثى، مما جعل النهضة الحضارية ممكنة. وفي ظني إظهار هذا الجانب من دور المرأة في تراثنا يفيد الأجيال الجديدة الناهضة. وإن كان لابدّ، فهذه ملحة الختام من أبي عثمان. قال بعضهم: (كنا في مجلس رجل من الفقهاء فقال لي رجل: عندك حرّة أو مملوكة؟ قلت: عندي أمّ ولد، ولِمَ تسال عن ذلك؟ قال: إن الحرّة لها قدرها، فأردتُ أن أعلمك ضرباً من الجماع طريفاً. قلت: قل لي! قال: إذا صرت إلى منزلك فنم على قفاك، واجعل مخدّة بين رجليك وركبك ليكون وطاءً لك، ثمَّ ادعُ الجارية وأقم قضيبك وأقعدها عليه، وتحوِّل ظهرها إلى وجهك، وارفع رجليك ومُرها ان تأخذ بإبهامك كما يفعل الخطيب على المنبر، ومُرها تصعد وتنزل عليه فإنه شيء عجب. فلما صار الرجل إلى منزله فعل ما أمر به، وجعلت الجارية تعلو وتستفِل، فقالت: يا مولاي، من علّمك هذا الضرب من الجماع؟ قال: فلانٌ المكفوف. قالت: يا مولاي، ردَّ الله عليه بصره!).

العدد 1105 - 01/5/2024