الماركسية بين الأرض والسماء

عبد الرزاق دحنون:

مقال مهمّ –لا بدّ من استعادة أفكاره بين الحين والحين- للباحث الفلسطيني الراحل سلامة كيلة، سأعمل على إضافة بعض الأفكار إلى ما فكّر فيه أستاذي، وإضافة التلميذ إلى فكر أستاذه قضية محمودة في هذا الباب. وكنت قد تعرّفت إلى سلامة كيلة صيف عام1987في بيتنا في مدينة إدلب في الشمال السوري، حين زارني برفقة صديقنا المشترك الشاعر السوري صقر عليشي، وكنتُ شابّاً حينذاك، أكتب بعض المساهمات الصغيرة في الفكر والأدب وانشرها في مجلة (الهدف) التي أسّسها غسان كنفاني. ومن ذلك اليوم رحت أتابع ما يكتبه هذا المفكر الجسور -رحمه الله- وقد كان جسوراً قولاً وفعلاً.

عنوان المقال (من نقد السماء إلى نقد الأرض) نشره أول مرة في مجلة الجديد التي تصدر في لندن في 1/5/2015 ونُشر في جريدة العرب اللندنية يوم الأحد 17/5/2015 ونُشر أيضاً في موقع (الحوار المتمدن) ذائع الصيت في 23/11/2015. ما الذي يريد منا سلامة كيلة أن نفهمه عن العلاقة القائمة ما بين الأرض والسماء؟ وهل يمكن لهذه العلاقة أن تضعف وبالتالي تنقطع؟

في العصر الحديث عرَّفت الفلسفة الماركسية الدين بأنه انعكاس وهمي للعالم، ناشئ من العجز، في الأدوار المبكرة للوعي البشري. وقد أُعيدت صياغة الفكرة من جانب الشاعر العراقي المتفلسف جميل صدقي الزهاوي. قال يخاطب الإنسان في بيتين من أطرف وأعمق ما نظم:

 

لمّا جهلت

من الطبيعة سرّها

وأقمت نفسك في مقام معلّل

صوّرتَ ربّاً

تبتغي حلّاً به

للمشكلات.. فكان أعظم مشكل

 

لماذا أقلقت هذه العلاقة بين الأرض والسماء سلامة كيلة وهو الماركسي العنيد؟ وهل ما أشار إليه في ذلك العنوان الذي وسم المقال هو فعلاً نتيجة الميل الجارف الذي يجتاح اليسار والليبراليين إزاء نقد الدين، باعتبار التنظيمات التي تعتبر الدين نهجاً بكل التطرف والتعصّب الذي يحكمها هي نتاج الدين.

بالتالي عادت (موضة) التركيز على الدين، والميل إلى نقد الدين، لكن من منظور سلبي محدّد مسبقاً، ينطلق من ممارسات تلك التنظيمات الجهادية. لهذا بات المسار باتجاه معاكس لما أشار إليه ماركس، فقد عدنا ننقد السماء بدل نقد الأرض.

يريد سلامة كيلة منا أن نعود لنقد أفعالنا كبشر (نقد الأرض) قبل أن يصل نقدنا إلى عنان السماء، خصوصاً أن نقد الأرض لم يحظَ باهتمام طيلة العقود السابقة، وتاه الفكر بين تبرير الدين ونقد الاستبداد. حيث ساد الميل الشديد إلى تأويل الدين، في سياق طرح مسألة الحريات والديمقراطية. لقد حكمنا فكر الغرب المُترجم من خلال رؤية غربية فاضحة، ولم يجرِ لمس واقعنا بما هو تكوين بشري وليس دول وكيانات فقط. فهل فعلاً نقد الدين يفضي بنا إلى مزيد من التقدم والرقي أم أن الأمر برمته كان له مهاده الطويل العريض في الغرب تلك الأيام التي انفتح فيها الفكر الغربي على نقد المنظومة الدينة وليس نقد الدين بحد ذاته.

أليس من الأجدر بنا العودة إلى المفكر العراقي هادي العلوي واستيضاح مشروعه البحثي المهم، لأن مشكلة المواطن العربي ليست مع الدين، فالدين يعيش معنا من آلاف السنين وكان حيَّاً في زمن الحضارة والازدهار والرخاء، وكان حيَّاً في زمن الانحطاط والتخلف والجهل. وتاريخ الشرق هو تاريخ الأديان على حدِّ تعبير شيخنا كارل ماركس. مشكلتنا الحقيقية مع الدولة ومنظومتها الدينية التي تعمل على حماية مصلحة رجال الدولة ورجال الدين وفي الوقت نفسه حرمان الناس من العيش الكريم من خلال ضيق ذات اليد التي تحرم المواطن الشغيل من أكل (الكباب) الذي صار حلماً يتحقق من العيد إلى العيد. ويمكننا العودة هنا إلى الفيلم المشهور (الإرهاب والكباب) لعادل إمام ومشاهدته من جديد لأخذ العبرة.

لقد أفضت السياسات الاقتصادية القائمة التي اشتغلت عليه الحكومات العربية إلى دفع كتلة مجتمعية كبيرة نحو الفقر والبطالة والتهميش، ونشوء عشوائيات ومدن صفيح، ومناطق مهملة. لهذا نشأت حالة من الشعور بالعجز عن الحياة، حيث لا عمل، والأجور لا تكفي المعيشة اليومية، والأفق مسدود ويزداد انسداداً. هذه الحالة أطلقت تمرّداً اتخذ شكلاً دينياً لأن قوي اليسار عجزت عن ضم هؤلاء إلى منظومتها الفكرية.

لا شك في أن هناك بيئات مهمشة، وواقعاً تعليمياً منهاراً، وتسرّباً كبيراً، وحالة فقدان الأمل في مستقبل يسمح بالعيش فقط، ومنها يخرج هؤلاء المتطرفون. هناك بيئات مكبوتة بكل معنى الكلمة، وأخرى لا تزال تعيش على هامش العصر الحالي وكأنها في مجاهل القرون الوسطى. هذه بيئات مغذية للتطرف، وتسمح بقبول الأفكار التي تلامس الموروث، أو الوعي التقليدي، الذي يقوم على الدين بكل تبسيطه للموروث. ويصبح الأمر مفهوماً حين تدعو تلك الأفكار إلى التطرف، فالأزمة المجتمعية التي يعيشها هؤلاء تفرض الاستجابة لهذه الأفكار.

أليس هذا هو الواقع الذي يجب نقده؟ نقد التخلف وكشف أسبابه، ونقد الفقر والتهميش وكشف النهب الذي تمارسه الفئات المسيطرة، والتعبير عن طموح هؤلاء المفقرين ببديل يحقق إنسانيتهم. لماذا التخلف والفقر والتهميش وبقاء ذاك الوعي التقليدي؟ من يُجيب عن هذه الأسئلة يمكنه التأثير في الواقع المعاش تأثيراً إيجابياً.

إن نقد الدين في هذه الحالة لا يقدم شيئاً سوى زيادة التشوش، حيث يمكن أن يعالج أمر الدين في سياق آخر، يتعلق بالبحث التاريخي، أما حينما نلمس الواقع فيجب أن نتناول الواقع ذاته. ليس نقد الدين ما يفيد هنا بل نقد الواقع. هنا نلمس الفعل القصدي لاستغلال الفكر الأصولي، وغرزه بالقوة في المجتمع. وهي العملية التي دعمتها بقوة نظمُ التخلف والاستبداد في المنطقة.

لا تهربوا إلى نقد السماء فهي موجودة في الأرض، انقدوا كل ما يدفع إلى جعل الشعوب تريد العزاء الروحي، واشتغلوا على تغيير الواقع الذي ينتج ذلك، اشتغلوا على واقع يحمي إنسانية الإنسان، ويسمح له بحياة كريمة!

العدد 1105 - 01/5/2024