حول التنمية الذهنية

يونس صالح:

يشهد العصر الحديث تحولات عالمية متسارعة تتمثل في عولمة معظم أنشطته الإنسانية، وسرعة تدفق المعلومات والانفجار المعرفي وإنتاج التكنولوجيات المتقدمة والفائقة.. وذلك يضع تحدياً كبيراً أمام نظام التعليم عندنا والقائمين عليه.. فإما أن يتغير نظام التعليم بحيث يخرج أجيالاً قادرة على مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية بفكر منظومي شامل، أو يستمر في تخريج أجيال يظل معظمها تحت حد التقدم منعزلاً عما يجري حوله، وغير قادر على مواجهة تلك التحديات. ولكي يتحقق التغيير السابق الذكر ينبغي أن تنهض عملية تطوير التعليم بصورة منظومية ومترابطة وشاملة ومتفاعلة، وهذا يستدعي الاهتمام الكبير بالعقل وإمكانياته، وأساليب نموه وتطويره.

ولعل كشف النقاب عن الكيفية التي تصنع بها المعرفة العقل هو السبيل لحل الكثير من إشكالياته الراهنة واللاحقة. ويقصد بالكيفية هنا عديد من الأمور منها: كيف يستوعب العقل المفاهيم؟ وكيف يحشد قدراته الذهنية لحل المشكلات، وكيف تتداعى ذاكرته وتنمو، وكيف يتضافر وعيه مع لا وعيه وحدسه لتوليد الأفكار وإبداع الجديد؟ وغير ذلك من الأمور.

إن أطفال اليوم عالمهم عالم الغد، وليس عالمنا نحن، فلماذا نعلّمهم وفق ما تعلمناه ونعرفه نحن؟ كما لو أننا نعدّهم لزماننا وليس لزمانهم؟ فنحن نخرّج أفراداً للمجتمع بأفكارنا نحن، وبعيوننا نحن، وبتجربتنا نحن، وبظروفنا المحلية الحاضرة التي لن يعيشوا فيها، ولن يقابلوها، وبالتالي يجب إعدادهم لزمانهم هم، وليس لزماننا نحن.

وفقاً لهذه الحكمة، فالمعلم عندنا مطالب بأن يغير من أنماط تفكيره، بحيث يمكنه استشراف المستقبل وقراءة عقول التلاميذ حتى يتمكن من إعدادهم لزمانهم، ووفقاً لذكاء ومهارة كل منهم، وذلك يتطلب أن يسعى لاكتساب مهارات خاصة تسمح له بالتعامل مع الجديد في عصر المستقبل، عصر المعلوماتية والتقنيات المعقدة التي تتيح له تنمية متواصلة.. ويبدو أن الصورة التي قدمها الروائي تشارلز ديكنز للنظام التربوي في روايته (أوقات عصيبة) هي واحدة من أقوى تعبيرات الاحتجاج الثقافي على هذا النظام التربوي الذي يحيل الطلاب إلى ماكينات لحساب المعلومات وحفظها فقط. ففي الفصل الدراسي يقف المعلم وكأنه فوهة مدفع وهو يقذف بالمعلومات كالقنابل على صفوف الطلبة الذين تموت فيهم ملكات الخيال والروحية من أجل امتصاص هذه المقذوفات المعلوماتية بدقة لحفظها وتكرارها في الاختبارات، بل إن الطالب في مثل هذا الفصل الدراسي يكاد يفقد إنسانيته.

إن التنمية الذهنية ترتبط إلى حد كبير بضرورة إتقان المعلم لمهارات التفكير الناقد، ومن هذه المهارات مهارة مراقبة الذات، ولابد أن يتمكن المعلمون من تدريب طلابهم على هذه المهارة، وذلك ليس من خلال الأسلوب الشفوي التلقيني، ولكن من خلال أن يسلكوا أمام التلاميذ سلوكيات تجعلهم نموذجاً يقتدون به.

لقد غدت التنمية الذهنية مطلباً مهماً وسريعاً في حياتنا اليومية عامة، وفي العملية التعليمية خاصة، ذلك أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتنمية المستدامة لإنسان القرن الحادي والعشرين.. فأين نحن من ذلك؟

العدد 1105 - 01/5/2024