الطوطم والافتراس البشري

أحمد ديركي:

حاول الجنس البشري، وما زال، منذ تشكّلات وعيه أن يجد مخرجاً لجنسه يميّزه عن بقية كل ما هو موجود في الطبيعة. لكن هذا الأمر ليس بصحيح في كل مراحل التاريخ البشري، إذ يعتقد في البدء أنه كان أكثر التصاقاً بالطبيعة، رغم صراعه معها، واعتقاده بأن أصله ينبع من الطبيعة ومكوناتها.

ما يؤكد هذه البدايات، أي اعتقاد الإنسان بأن أصله من الطبيعة، أديان القبائل الأولية وعباداتها، فمعظم هذه القبائل تؤمن بأن أصولها تعود إلى حيوان ما، ويتحول هذا الحيوان، في الفكر الأسطوري، إلى مقدس ويصبح رمز القداسة في القبيلة. فتشكل (الطوطم) ليعبر عن الفكر القدسي لكل قبيلة. ومن ثم تطور الفكر (الطوطمي) ليصبح ديناً، مخرجاً الإنسان عن أصله الطبيعي واضعاً إياه في مكان معزول عنها. وبهذا يصبح الجنس البشري منفصلاً عن الطبيعة وبقية الكائنات ليضع جنسه في مرتبة أعلى قدراً من كل ما هو موجود في الطبيعة. معيداً أصله إلى مخلوق غيبي خلقه على (شاكلته) وميزه عن بقية المخلوقات. فبهذا تطوّر الطوطم القبلي إلى (طوطم) غيبي بالمفهوم الديني.

طوطم يتصارع مع طوطم آخر، أي قبيلة تتصارع مع قبيلة أخرى، انطلاقاً من قانون الطبيعة. فالطبيعة تقوم على (الصراع) بين الطواطم لتستمر. أي أن الحيوانات (المفترسة) تفترس حيوانات أخرى لتبقى على قيد الحياة، وللافتراس قوانينه الطبيعية. وكذلك الحيوانات العاشبة عليها أن تلتهم الأعشاب لتبقى على قيد الحياة…

لكن تبقى الإشكالية التالية: ما حاجة الإنسان، صانع الطوطم، إلى افتراس الإنسان؟ فالإنسان يستطيع افتراس الحيوان والنبات ليبقى على قيد الحياة فلماذا يفترس الإنسان الإنسان من دون أن يأكله؟ أي يقتله من دون حاجة إلى أكله؟

الإجابة على هذه الإشكالية ليست سهلة، لكنها تتوضح من خلال الغوض في الفكر الماركسي – اللينيني وتتبّع التاريخ البشري ومسألة الملكية الخاصة وتطور هذا المفهوم عبر التاريخ وتمرحلاته.

مع تشكل نمط الإنتاج الرأسمالي قامت الدول القومية والحدود السياسية لهذه الدول، وأصبحت الأمور أكثر وضوحاً لكل شيوعي. لكن لمن انغمس بالفكر البرجوازي من شدة وضوح المسألة أصبحت مبهرة للنظر فانعدمت الرؤية وأصيب بالعمى. فحاول الإنسان (المتحضر) أن يعلل الانبهار بقوانين متعددة، يعتبرها قوانين عالمية، كي يحد من (افتراس) الإنسان للإنسان. وأنشأ ما يعرف بـ(عصبة الأمم)، وفشلت بسبب الافتراس، ثم أنشأ الأمم المتحدة، والتي تبدو حالياً ليست إلا أداة في أيدي (الطواطم) المهيمنة.

من ضمن هذه القوانين العالمية المبهرة قانون (حقوق الإنسان). فقد كان في البدء (إعلان)، ومن ثم أصبح قانوناً (شكّل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1948، أول وثيقة قانونية تحدد حقوق الإنسان الأساسية التي يجب حمايتها عالمياً). وذكر مصطلح (وثيقة قانونية) يجعل منه قانوناً، ويجب حمايته. ولتأكيد قانونيته (يُعتَبَر مبدأ عالمية حقوق الإنسان حجر الأساس في القانون الدولي لحقوق الإنسان).

قانون من المفترض أن يكون تحت حماية الأمم المتحدة، وتكون مشرفة على تطبيقه بعد أن وقّع عليه كلّ أعضائها، وأصبح جزءاً من قوانين الدول. ولهذا القانون محاكمه، المحلية والدولية، وأدواته التنفيذية وأجهزة المراقبة التي تعمل ليلاً نهاراً لتغطية تطبيقه في كل أنحاء العالم. والعمل ليلاً نهاراً يعود إلى اختلاف التوقيت بين دول العالم لكروية الأرض، و(الإخلاص) في تطبيقه وإصدار تقارير دورية حول تطبيقه.

قانون لا يفرق بين إنسان وإنسان، أينما وُجد هذا الإنسان على الكرة الأرضية، لأنه قانون أرضي. قانون يجعل من كل (الأعراق) البشرية متساوية في الحقوق والواجبات. فمن يخالفه يكون قد خالف قانون دولي. ومن يخالف القانون الدولي يستحق العقاب. فالقانون في جوهره ملزم لمن وقّع عليه، وفي الوقت عينه هناك عقاب لمن لا يطبقه. فالإلزام والعقاب من جوهر القانون، ذلك أنه لا قانون بلا إلزام وبلا عقاب، من قوانين السير إلى قانون حقوق الإنسان. إن غاب عنصر من العنصرين، إلزام وعقاب، سقط مفهوم القانون.

كما يوجد بُعد آخر للقانون، وهو إمكانية التطبيق. فالقانون لا يصبح قانوناً إن لم يكن هناك قدرة على تطبيقه. وبعامة تتمظهر القوة السياسية في أي دولة من خلال القدرة على تطبيق القوانين التي تصدرها. وبهذا يضاف بُعد ثالث على جوهر القانون، وهو إمكانية تطبيق القانون. فتصبح للقانون ثلاثة أسس أساسية: إلزام، وعقوبة، وتطبيق، ليصبح قانوناً، إن غاب أيّ أساس منها غاب القانون.

قانون حقوق الإنسان من ضمن هذه القوانين الحامل لأسس القانون، ويحمله بقوة لأنه قانون عالمي، صادر عن (أعلى) سلطة سياسية في العالم تتمثل بالأمم المتحدة. وقد انبثق عن هذا القانون، مع الوقت، عدة قوانين منها (حقوق الطفل).

لأنه قانون على هذا المستوى العالمي، والمحلي، أصبح خرقه يُهدد وجود هذه السلطة الموقعه عليه، أو حتى تلك الدول غير الموقعه عليه، لأنه قانون عالمي. أي أن الدول العضوة في الأمم المتحدة وغير موقّعة عليه عليها أن تطبق القانون، أو بحد أدنى أن لا تخرق قانون حقوق الإنسان. وهو قانون عالمي يمكن للجميع الاطلاع عليه، فلا حاجة إلى ذكر مواده، ولا من حاجة إلى التذكير بها.

لكن ما لم يلحظه القانون العالمي لحقوق الإنسان مسألة (الطواطم) الأقوى من القانون، أو الأصح يتغاضى عنه. فحالياً، في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي، فإن (الطواطم) الأقوى يحقّ لها افتراس أي دولة بشعبها وكأن هذا القانون لا وجود له. أي وكأن الأمم المتحدة غير موجودة، والأصح الأمم المتحدة تكون عامل مساعد لهذا (الطوطم) أو ذاك في تشريع افتراسه.

الأمور واضحة كوضوح الشمس، وعندما تكون الشمس واضحة ومشرقة فالنظر إليها مبهر إلى حد العمى. وهذا ما يحدث مع القضية الفلسطينية منذ قام الكيان الصهيوني على أرضها. فمنذ نشوء هذا الكيان على أرض فلسطين و(الطوطم) والطواطم القوية تدعمه في احتلاله وافتراس شعب فلسطين، والأمم المتحدة والقانون العالمي لحقوق الإنسان غائبان كلياً عن المشهد.

لكن من كثرة الانبهار الذي تسبّب بالعمى، انساقت الأنظمة العربية خلف (الطوطم) وبقية الطواطم الأقوى، وانخرطت في افتراس الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية. ومن أسس فكر (الطوطم) أن ينظر إلى الإنسان الآخر على أنه ليس إنساناً، ملغياً بفكره هذا كل أسس القانون الدولي، والأمم المتحدة، والمنظمات الدولية، والمنظمات الإنسانية، ولا توجد إلا عندما تكون في خدمة فكر الطواطم الأقوى.

فتتحول قضية افتراس شعب، بأطفاله ونسائه وعجائزه، ووطن، وكأنها مجرد عملية (دفاع عن النفس) ضد كائن آخر لا بشري، قد يكون (حيوان بشري)، (دفاع) يدعمه قانون حقوق الإنسان لأن (الدفاع عن النفس) ليس ضد إنسان.

انبهرت الأنظمة العربية وأُصيبت بالعمى من شدة وضوح الفكر الطوطمي، وها هي ذي تسير خلف (طوطم) مفترس لأنه أقر بأنه يقاتل ضد (حيوانات بشرية). أنظمة تطبع مع هذا الطوطم بطريقة مباشرة، أو تقيم علاقات صداقة وطيدة مع كل من يغذي هذا الطوطم ليفترس أكبر قدر ممكن من الشعب الفلسطيني وأرض فلسطين.

فنعود هنا إلى قانون حقوق الإنسان، والأمم المتحدة. صحيح أنه يتصف بـ(قانون حقوق الإنسان)، فيتضح أنه في الواقع يصنف الجنس البشري إلى قسمين: القسم الأول بشر أصحاب الطواطم الأقوى فيحميهم، والقسم الثاني ليسوا بشراً فيشرع افتراسهم من قِبل القسم الأول. والأمثلة على هذا التصنيف كثيرة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: أفغانستان، العراق، فلسطين… وغيرها.

لذا قبل الدخول وتطبيق قانون حقوق الإنسان، وبقية القوانين الدولية والذهاب إلى الأمم المتحدة، والالتحاق الأعمى من قبل الأنظمة العربية بالطوطم والطواطم الأخرى مغذّي الطوطم الصهيوني، علينا أن نعي أولاً كيف يرانا هذا الطوطم الصهيوني، أي إلى أي قسم بشري ننتمي: بشر أم (حيوانات بشرية)؟ ومن ثم علينا أن نعي مدى انبهارنا ومستويات العمى المصابين به؟

فما يقدمه الشعب الفلسطيني من تضحيات وبسالة في المقاومة المباشرة ضد الطوطم الصهيوني، والطواطم الداعمة له، وكذلك ما يقدمه كل مقاوم أينما وُجد، بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، لأن الكيان وداعميه لا يعرفون لغة الشرعية، يبرهن على أن الطوطم الصهيوني رغم الدعم الطوطمي العالمي له واقع في مأزق. ومهما حاولت الأنظمة العربية من تملق وتطبيع وصمت وتقديم دعم مباشر أو غير مباشر.. فالطوطم الصهيوني لا ينظر إليها وإلى شعوبها إلا على أنهم (حيوانات بشرية).

لكن يبدو أن انبهار الأنظمة العربية وعماها من شدة الوضوح تخفي عنهم هذه الحقيقة إلى أن يأتي دورهم. فلتُقَم الاحتفالات والمهرجانات في بعض الدول العربية، إن لم يكن في جميعها، على أنغام دم أطفال فلسطين، ولتُقَم احتفالات الميلاد على تراتيل آلام عجائز فلسطين، ولتُقَم احتفالات رأس السنة على دم المقاومين… فهذا واضح من اليوم من خلال الإعلانات بالعلن لا في السر عن توفر الحجوزات للاحتفال برأس السنة في المطاعم والملاهي والفنادق …وغيرها.

العدد 1104 - 24/4/2024