الهزيمة الأقسى.. هي العجز

حسين خليفة:

العجز عن الإتيان بأيّ فعل في مواجهة الذلّ والعدوان والتجويع والاغتصاب هو أقسى هزيمة يمكن أن يتصورها عقل.

لذلك لا نتردّد مطلقاً في القول إننا مهزومون أفراداً وجماعات، حكاماً ومحكومين، داخلياً وخارجياً، في كل المناحي سياسةً واقتصاداً وثقافة ورياضة وأخلاقاً.. يكفي سبب وحيد، هو العجز ليُحيلنا إلى وهم أمم وشعوب وقبائل.

عجزنا بعد الاستقلال أن نبني دولاً وطنية، بما تعنيه الدولة المعاصرة من مؤسسات ودساتير وقوانين تنظم تداول السلطة حسب الإرادة الشعبية، التي تُعبّر عنها الانتخابات الحرة دون ضغوط أو قوائم مُعلّبة، بل ابتلينا، وقبلنا بالبلوى لعقود بدول أقرب إلى مزارع للقادة والمسؤولين لا يستطيع أحد أن يسألهم أو يسأل أصغر أعوانهم عن مصير الثروات التي تُنهب وتُهدر في حروب عبثية، فيما يبقى الناس رازحين تحت نير الفقر والحرمان.

ما حدث في معظم أنحاء البلاد وأحرق ما تبقى من أحلامنا في بناء وطن مُعافى وحرّ وقوي لم يكن لنا فيها رأي أو دور أو مجرد تساؤل عمّن فعلها.

ما يحدث الآن في غزة الجريحة نتيجة عسف المحتل الصهيوني وتفرّد الفصائل الإسلامية المتوحشة بقرار الحرب والسلم بإيعاز من مُشغّليها لا ليُحرّروا أرضاً محتلة أو يفرضوا تسوية عادلة لإنهاء أعتى احتلال لفلسطين، بل ليستمر المحتل في قضم المزيد من الأرض وتدمير المدن والحياة وقتل الأطفال دون أن نستطيع سوى ممارسة الندب والصراخ الفارغ شعوباً وحكومات.

وما حدث قبل كل هذا في العراق وليبيا واليمن ولبنان دون أن يستطيع أكثر من مئتي مليون ينامون على جبال من الثروات المهدورة فعل شيء سوى الكلام، وحتى الكلام لا يتجرأ عليه المواطن العربي إلاَّ بما تسمح له به هذه السلطات التابعة الجبانة.

تُقصف مطاراتنا ومنشآتنا ليل نهار، يخرج أهم مطارين في سورية من الخدمة مراراً ولا همسة عتب من أحد.

حالة العجز المزمن لدى المواطن في هذه البلاد التي تشقُّ طريقها سريعاً إلى الخراب جعلت الهزيمة خبزنا اليومي.

أدمنّا صمتنا وهزائمنا حتى تصالحنا معها تماماً، وصرنا نسمع رغماً عنّا طبول السلاطين وهم يبشروننا كل حرب بالنصر المؤزر. ثم بعد أن تنتهي الحرب ونلتفتُ إلى البلاد التي احتُلت ونُهبت ودُمّرت نخرج مرغمين للاحتفال بالنصر المؤزر!

بعد هزيمة حزيران عام 1967 واحتلال إسرائيل للضفة الغربية وغزة والجولان وسيناء، أصرّت الأنظمة القائمة بالحديد والنار على شعوبها طبعاً على أنها انتصرت، وأسمتها بالنكسة.

كيف انتصروا؟

قالوا لنا يكفي إن إسرائيل وحلفاءها الامبرياليين لم يتمكنوا من إسقاط الأنظمة (التقدمية)!!

لم يتجرأ أحد على مجرّد السؤال: ولماذا ستسقطها إسرائيل ما دامت منحتها في ستة أيام ما لم تكن تحلم به في سنوات؟!

النتيجة أن الأراضي احتُلت جرى فيما بعد ضمّها لدولة الاحتلال، واستمرت الأنظمة (التقدمية) حتى أحرقت الأخضر واليابس، وسواء رحلت وحلّ محلها من هو أسوأ منها وقد تربّى في حضنها، أم بقيت مُتشبّثة بكراسي الحكم، فقد أنجزت أول مهمة للمحتل، وهي القضاء على أي فرصة نهوض لهذه الشعوب لقرن قادم على الأقل.

نعم، هناك مؤامرات من الاحتلال وداعميه الأمريكان والغربيين، وهو من طبائع الحروب والصراعات، إذ يحاول كل طرف إرباك الخصم وإضعافه بشتّى السبل، لكن هناك من يُمهّد للمؤامرات طريقها لتكمل المخطط بسهولة ويسر.

وسواء كانت خدمة المؤامرة والمتآمرين قصداً أو من غير قصد نتيجة غباء مُستفحل يرى في كل واحد من مواطنيه عدواً مُحتملاً، وكل من يشير إلى الخلل في بناء الدولة والفساد المُستشري وغياب الحريات وتفريغ المؤسسات من مضمونها وتجييش المنافقين والرداحين لتجميل الهزائم، يعتبرونه عميلاً وشريكاً في المؤامرات، ويُنكّلون به ويزجونه في السجون والمعتقلات التي غطّت مساحة الأوطان المنكوبة.

هذه الحال المؤسفة من العجز المزمن جعلت كل واحد منّا حريصاً على الاستمرار في صمته، بل إن بعضنا تطوع للدخول في جوقة المداحين والردّاحين ظناً منه أنه بذلك يضمن سلامته، وهو كالشاة التي تنتظر دورها في الذبح.

يبدو أننا في الفصل الأخير من المأساة، فهذه الشعوب المغلوبة على أمرها إن لم تبادر عبر نُخبها وقواها الحية، التي هشّمها الاستبداد، إلى هبّة واحدة تُعيد وضع التاريخ على قدميه بعد أن قادوه على رأسه لعقود بل لقرون، فسنكون نحن الجيل الأخير في مسيرة الهزائم والصمت.

نعم، سننقرض ونصبح نقطة سوداء في ذاكرة التاريخ.

العدد 1104 - 24/4/2024