ليالي شتائنا الحزين

وعد حسون نصر:

شتاؤنا حزين وأحلام مهزومة لليل طويل مزّقته نفخات الآنين من أفواه الآباء، ونظراتهم الحائرة على أسِرَّة أبنائهم النائمين الجياع المرتجفين من البرد، لا الراتب يكفي لتشبع الأمعاء ولا عمل آخر يملأ خزان وقود المدفأة لتدفئ الأيادي ويخطَّ الأطفال مستقبلهم. قهر مدفون بصدور الأمهات يختلسن النظر إلى أبناء مستقبلهم مجهولٌ، لا يعلمن أهم باقون تحت أجنحتهن، أم أنهم عندما تنفتح لهم أبواب السفر سيغادرون مثل السنونو في بلاد الله، لكنهم لن يرجعوا، فلا دفء يغريهم ولا مواسم القمح تلوح لهم، طاروا إلى بلاد ربما فيها الحب أوفر.

شتاء بلادي لم يعد للذكريات، لقصص الحب، لأهازيج المساء، لغناء الباعة على أرزاقهم عند الصباح، ولا لصوت فيروز في الحافلات تغني لبردى، لقاسيون وللفيحاء. شتاء بلادي أضحى شوارع يملؤها الطين، وتغمرها مياه الصرف الصحي، يفترشها المتسولون نهاراً وليلاً، يتسكّع فيها لصوص الظلام. لم يعد الياسمين يفترش جدرانها فيعطّر حاراتها، ولا الجوري يلون أرصفتها ومداخل منازلها. بلادي باتت أشبه بقطعة أثاث قديمة يكسوها الغبار كلما نفح الهواء، فتعمي مُقلَنا من شدّة تناثر الغبار. باب الجابية غدا عفناً، فرائحة الهموم من ملابسه البالية أقوى من رائحة الذكريات، وباب شرقي أغلق مصراعيه عن حفلات السمر وضحكات اليافعين ودعابات المخمورين، شتاؤه حزين ومواقد الحطب غمرها النبيذ المُعتّق من خوابي تشقّقت فنفد منها كل النبيذ. أمّا باب توما فلم تعد ألوانه ترقص فرحاً مع خطوات المارّة، فدمشق قد أغلقت أبوابها السبعة ونامت حالمة بشمس دافئة بعد ليل بارد إيماناً منها أن لا بدَّ أن ينجلي الليل ويُطلُّ الصباح وتتضح كل التفاصيل، فآخر النفق آتٍ لا محالة مهما طال السير وسط عثراته وظلمته، وستعود دمشق لليالي السهر، وستُنار ليالي شتائها وشوارعها بألوان الأمل.

سنعود لنحيك أحلامنا من جديد مع كرات الصوف الملونة بقفازات وقبّعة وشال وعقدة رقبة، وجدائل مُطرّزة على ثوب طفلة تحلم بالصباح لترقص بثوبها الجميل على أنغامه، سنعود من جديد نفتح أيدينا للسماء نصلي للحب، ونردّد تراتيل الغرام، فنزرع الغار انتصاراً على الإحباطات والخيبات، سنلوح بمناديل بيضاء وأغصان زيتون ونكتب على أجنحة الحمام رسائل الشكر وأجمل الأمنيات. نعم سنعود، فدمشق لا تشيخ ولا تُخَتْيِر، دمشق صبية ترقص على رباعيات الخيام وسط المرجة بخلخالها الذهبي والقرط العاجي، وفستانها المزركش. دمشق ناسكة تُرتّل الدعوات مع صداح مكبّرات المساجد وأجراس الكنائس، دمشق كاهله تحيك أحلامنا على مناديل السفرة البيضاء. سنعود، فدمشق لا تحزن ولياليها لن تبقى داجية، ستعود مُضاءة بقناديل المحبة، فنحن أول شعب ولد في الحياة، وآخر شعب ستنتهي على يديه الحياة باسمةً.

العدد 1104 - 24/4/2024