النزيف البشري.. هو الخطر الأكبر على الكيان السوري

حسين خليفة:

يمرُّ البعض، سهواً أو عمداً، مرور الكرام على إحصاءات أعداد السوريين الذين هاجروا بحثاً عن لقمة عيش كريمة قبل عام 2011، وهم بالمناسبة يُعدّون بالملايين.

تلك الحقبة يحلو للبعض أن يصوّرها على أنها فترة ازدهار وانتعاش ونهوض، ويُترجمها الكثير من الناس الغارقين في أهوال الانحدار الحالي بعبارة (كنا عايشين)!! وأراها عبارة دقيقة ومعبِّرة عن الواقع الذي كان عليه قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية عام 2011. فمفردة العيش ليست مرادفة طبعاً لمفردة الحياة، الأولى ضيقة تعني توفر ما يكفي للاستمرار فقط، ولو كنت محروماً من كل الحاجات الإنسانية عدا ما يقيم أودك من طعام أو شراب ولو كان خبزاً وفلافل وزعتراً فقط، أو مسكن ولو كان في عشوائيات قاتلة لروح الإنسان، وفرص عمل ولو كانت عبودية مُقنّعة تضطر معها إلى العمل في أكثر من عمل طوال النهار والليل لتستمر في العيش، وتحمد ربك على هذه النعمة، وتسبِّح بحمد أولياء الأمر وأفضالهم.

أما الحياة فتعني توفر الشروط الإنسانية الكاملة لأن يحيا الإنسان حياة كاملة، ليس أنها تختلف فقط عن بقية الكائنات التي تدبُّ على سطح المعمورة، بل هي أرقى وأبهى، والسوريون بعد كلّ ما تحمّلوه وعانوه وصبروا عليه.. يستحقّون الأبهى والأرقى، ولدينا في أرضنا وفي قدرات شعبنا ما يؤهّلنا لنمط متقدّم من أن نحيا مستوى متقدّماً من الحياة الإنسانية مشبَعةً بالرفاهية والكرامة.

بعد عام 2011، وحالما تحولت الاحتجاجات الشعبية، التي اندلعت حينذاك، إلى حرب عمياء، بدأت موجات الهجرات الكبرى للسوريين هرباً من أهوال الحرب والخراب والدمار، وخطر الاعتقال والخطف والجوع الذي بدأت ملامحه أكثر وضوحاً و(صفاقة) بعد أربع سنوات من إعلان النصر على (المؤامرة الكونية)، وقد تجاوز عدد المهاجرين منذ بداية الحرب عشرة ملايين سوري، منهم الآلاف من المثقفين والنخب العلمية والسياسية والاقتصادية التي لا ينكر وزنها وفاعليتها في حاضر سورية ومستقبلها، والفراغ الذي أحدثته هذه الهجرات، إلاَّ كلُّ أعمى بصيرة.

في حقل الكتابة الإبداعية مثلاً هاجر كثير من كتّابنا خوفاً من الملاحقة والأذى نتيجة مواقفهم السياسية وانحيازهم الى القطب الشعبي الذي خرج إلى الشارع، وانضمّوا إلى كتّاب المنفى الذين خرجوا قبل 2011 ليكسبوا حرية القول ويخسروا الأهل والأحباب ومواطن الذكريات، فقد هاجر مئات الشعراء والروائيين والقاصين والفنانين، أخشى إن ذكرت الأسماء أن أسبّب حساسية لدى البعض، لكن لا بأس من إيراد البعض القليل منهم على سبيل المثال: روزا ياسين حسن (روائية)، نبيل ملحم (روائي وإعلامي)، راهيم حساوي (روائي ومسرحي)، محمد المطرود (شاعر وروائي)، المرحوم خيري الذهبي (روائي، رحل في المنفى)، أحمد عمر (قاص وروائي)، إسلام أبو شكير (روائي)، ثائر الزعزوع (روائي وإعلامي)، خطيب بدلة (قاصّ وإعلامي)، نجم الدين سمان (قاصّ وإعلامي)، خليل النعيمي (روائي)، سحبان السواح (إعلامي وقاصّ)، سمر يزبك (روائية)، المرحوم عبدالقادر عبداللي (مترجم، رحل في المنفى)، غسان المفلح (إعلامي)، فواز حداد (روائي)، محمود الوهب (قاصّ)، محمد زاده (شاعر)، مصطفى تاج الدين الموسى (قاص)، نهاد سيريس (روائي)، هوشنك أوسي (روائي)، واحة الراهب (فنانة وروائية)، ياسين الحاج صالح (كاتب)، رستم محمود (إعلامي)، رشا عمران (شاعرة)، رائد وحش (شاعر وروائي)، إبراهيم اليوسف (شاعر وروائي)، المرحوم الدراما حكم البابا (شاعر وإعلامي وكاتب، رحل في المنفى)، خضر الآغا (شاعر)، محمد فؤاد (شاعر)، عمر قدور (أديب)، حسان عزت (أديب)، إبراهيم صموئيل (أديب)، مصطفى خليفة (روائي)، المرحوم د. صادق جلال العظم (أستاذ جامعي- فلسفة)، د. أحمد برقاوي (أستاذ جامعي- فلسفة)، الفنانون فارس الحلو، جمال سليمان، غطفان غنوم، عبدالقادر منلا، عزة البحرة، ثائر موسى، ريم علي، المرحومة مي سكاف، المرحومة فدوى سليمان، وغيرهم الكثير ممّا لا يتسع المجال هنا لذكر أسمائهم.

لا توجد إحصاءات لأسماء الباحثين والعلماء والمهندسين والأطباء، والخبرات العلمية والفنية، الذين خرجوا من البلد خلال سنوات الأزمة بحثاً عن حياة تليق بالبشر، أو هرباً من الملاحقة والمساءلة بسبب آرائهم، لكن من المعلوم لدى الجميع أنّ أعداد هؤلاء كبيرة جداً، وتصيب القارئ المتابع بالفزع على مصير بلد ينزف أغلى ثروة لديه.

إن أي سلطة تقرأ هذه الواقع، بغض النظر عن طبيعتها وشكلها وقوامها، يفترض بها أن تُقْدِم على الفور على خطوات عاجلة لترميم بعض ما نزفه وينزفه البلد من أغلى ثرواته.

والخطوات المطلوبة في هذا السياق سهلة وواضحة ولا تحتاج إلى ذكاء، وأهمّها:

  • البدء بحوارات جدّية وعاجلة مع جميع السوريين وقواهم السياسية والمجتمعية، لإعادة صياغة عقد اجتماعي جديد يجمع السوريين ولا يفرّقهم، يُمهّد لإعادة بناء النظام السياسي القائم على احتكار السلطة والحقيقة، والذي أثبت فشله الذريع ونتائجه الكارثية خلال عقود.
  • يلي ذلك إجراءات مثل عفو عامّ حقيقي وجدّي عن جميع التُّهم التي تتعلق بالرأي وحرية القول، وإطلاق حرية الإعلام، وتشكيل القوى السياسية ضمن ضوابط دستور وطني جديد.
  • وقف الفساد المتغوّل والمتوغل في شتى مفاصل الدولة، وأهمّ خطوة في هذا السياق هي تحسين الأوضاع المعيشية للعاملين في الدولة والقطاع الخاص، ذلك أن الدخل الحالي لهؤلاء يتطلب إعادة نظر جذريّة وليس زيادة، لأنه أصبح فعليّاً صفريّ القيمة مقارنة بتكاليف المعيشة المُحلّقة، وتردّي حالة الدخل عاملٌ مهمّ في (تطفيش) جزء من العقول والخبرات إلى خارج البلد، خاصة بعد انحسار مساحة الحرب نسبياً.

الخطوات السابقة واضحة، لكن إنجازها ليس سهلاً، وتقف دونه عوائق وقوى عاتية مستفيدة من الوضع الحالي ومتضرّرة من أي تسوية حقيقية تعيد السلام والوئام بين السوريين، وهذه القوى لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذه الخطوات المطلوبة.

لكن توفّر النوايا التي تعكس رغبة غالبية السوريين والإرادة الحازمة كفيلٌ بأن نبدأ بالخطوة الأولى، أقول توفّر النوايا والإرادة الحازمة هو شرطٌ أول وأساسي لكلّ ما سبق قوله.

فهل تتوفر هذه النوايا وهذه الإرادة؟!

العدد 1104 - 24/4/2024