تفاؤل وهمي يحمينا من الانسحاق!

إيمان أحمد ونوس:

ليس ثمة شكّ في أن التفاؤل حالة إنسانية ووجدانية طبيعية تساعد الإنسان على تخطّي وتجاوز العديد من المشاكل والأزمات التي تعترضه في مسيرته الحياتية بشكل عام. لكن مع اشتداد الأزمات واستمراريتها وارتفاع منسوب تعقيداتها، إضافة إلى حالات الإحباط التي تسيطر على الناس في مثل تلك الظروف، فإن الغالبية منهم يتشبّثون بالتفاؤل المفرط حتى لو لم تكن المؤشّرات توحي باقتراب النهاية أو إيجاد الحلول لما يُعانون، فقط لأنهم لا يملكون سواه في مواجهة الواقع، في حين يسيطر التشاؤم على الآخرين الذين لا يرون في الأفق ما يدفعهم لتبني هذا التفاؤل لكن دون أدنى فعل يُذكر. بالتأكيد، فإن ما ينطبق على الجماعة ينطبق أيضاً على الأفراد، من حيث أنه في كلتا الحالتين يكون هناك تعطيل للعقل وللقدرات الذاتية عن رؤية منطقية وعقلانية للواقع من جهة، ومن جهة أخرى عدم التفكير في إيجاد الحلول أو بعضها، فيعيش الناس في حالة من الاستسلام والخنوع ينتظرون من ينتشلهم من قاع قهرهم المقيم.

صحيح أن الأمل والتفاؤل مطلوبان وبشدّة في مختلف مسارات الحياة، لا سيّما في ظروف صعبة وشاقّة تقتضي النظر إليها بمنطق عقلاني، للبحث في جذورها والأسباب التي أدّت لنشوئها، من أجل تجاوزها أو وضع الحلول المطلوبة. غير أن المرفوض هو الإفراط في التفاؤل البعيد عن المنطق والقائم فقط على التمنّي الخالي من أي فعل، أو ذلك التفاؤل الذي يفرضه رجال الدين من خلال خُطَبِهم ومواعظهم الداعية إلى ضرورة الرضا والقبول بالواقع لأنها مشيئة الخالق وإرادته، انطلاقاً من قدرية لا منطقية في رؤيتها للأمور ومعالجتها، أو تلك الشعارات والخُطب الرنّانة التي يُخدّر بها المسؤولون على اختلاف مستوياتهم الناس طالبين منهم بعض الصبر والتفاؤل بأن الغد أفضل، بينما الواقع يفرض العديد من المشاكل والمآسي البعيدة كل البعد عن نظر أولئك المسؤولين وتفكيرهم بضرورة إيجاد حلول لها بعد البحث عن أسبابها لأجل تلافيها مستقبلاً والعمل على رفع مستوى الناس بغضِّ النظر عن انتماءاتهم، هم باعتقادي من وصفهم ابن رشد باللصوص حين قال: (إذا رأيتَ الواعظ يحثُّ الفقراء على القناعة والزهد دون الحديث عن سارقي قوتِهم، فاعلم أنّه لصٌّ بملابس واعظ).

وإذا ما أردنا النظر إلى الواقع السوري اليوم، نجد أن عموم السوريين العالقين منذ سنوات وسنوات ما بين التفاؤل حيناً والإحباط أحياناً كثيرة، في زمن يحتاج صراحة إلى الكثير من الصبر، لما فيه من قسوة وفظاعة ووحشية تفوق التصور، ونحن في الألفية الثالثة من تاريخ البشرية التي تفترض شبه رفاهية للإنسان أينما كان، أو على الأقل الحصول على متطلبات معيشته كافة بكرامة تليق به كإنسان له من الحقوق مثلما عليه من الواجبات، بينما نقبع نحن خارج التاريخ، بل وما قبل التاريخ البشري الذي بدأ فيه الإنسان الاعتماد على موارد الطبيعة لاستمرار حياته.

لا شكّ أن المشهد السوري اليوم يدعو للخيبة مع استمرار مأساتنا التي تتعقّد أسبابها وتتشابك خيوطها يوماً بعد آخر وسنة تليها أخرى بحيث لم يعد للتفاؤل من معنى ولا للأمل من وجود يُذكر، لاسيما بعد كل الخوف والقهر الذي عشّش في نفوس الغالبية منّا، لكنهما يظلان السند الوحيد والأخير لحماية أنفسنا من الانسحاق أكثر نحو هاوية (حيونة الإنسان)*. وهنا يحضرني عبارة لمحمود درويش قال فيها: (لا أريد أن أرى أكثر ممّا رأيت من خيبات الأمل، ولعلَّ ذلك هو ما تبقّى لي من أمل أن أحصّن نفسي ضدّ الخيبة).

* (حيونة الإنسان) كتاب للأديب السوري ممدوح عدوان.

العدد 1104 - 24/4/2024