تحديّات العولمة

يونس صالح:

العولمة كلمة تردّد صداها كقرع الطبل المدوي مؤذناً بأن العالم على أعتاب عصر حراك سريع غير مسبوق من حيث المحتوى والمضمون والأدوات، بل ونحو إنسان جديد، وتمثل العولمة اتجاهاً شاملاً طاغياً، ومن ثم قوة عالمية النطاق من شأنها أن تؤثر جوهرياً في جميع الاتجاهات الكبرى العالمية.

إن التقدم العلمي لم يرتدّ يوماً في تاريخ الإنسانية إلى سابقه، إذ يحكم مبدأ سهم الزمان المنطلق إلى الأمام، وإن اقترن مع تداول مراكز التقدم بتداول ثنائية الخير والشر والهيمنة والتبعية، ومن ثم نفاد قانون أو مبدأ صراع الوجود.

لذلك بدت العولمة بشيراً لأصحاب السيادة العلمية والتكنولوجية، وبشيراً أيضاً لمجتمعات قبلت التحدي والمزاحمة، غير أنها بالقطع وعن يقين نذير لمن تقاعس وتخلف عن الركب أو رأى فردوسه الذي يبشر به علماء العصر، وسادت بين هؤلاء مقولة يائسة، العولمة صناعة أمريكية مرفوضة، وهي مقولة صحيحة مرحلياً، وقنعوا بمقولة رفض (الشيطان) دون فعل التطوير والتحدي.

ولكن ثمة تساؤلات كثيرة هي من أهم دروس التاريخ، لقد وعدنا الغرب الأوربي بسيادة عصر العقل، ولكن ها هو ذا العقل الغربي ذاته يراجع نفسه منتقداً إخفاقاته وانحيازاته، فهل ما يمكن أن نسميه أيديولوجيا العولمة تمييزاً لها عن العولمة كتجليات علمية تكنولوجية مصيره بعد نحو القرن عودٌ إلى المراجعة وكشف لأسباب الأخطاء والخطايا؟ هل يمكن وقضايا العالم الآن تتفاعل بشدة على الصعيد العالمي كله، أن تسير أحداث الحراك العالمي على غير ما هو قائم الآن، ويجري تداول أو تعدد لمراكز الإنتاج العلمي والتكنولوجي ومراكز التحكم المالي.. إلخ، على عكس عصر المركزية الغربية؟ أو هل يمكن أن تفلت الأحداث من قبضة الإنسان المتقدمة، وإذا الفردوس المنشود ينقلب إلى جحيم؟ وهل نحن على أعتاب تحول لنشأة مجتمعات جديدة هي مجتمعات ما بعد المعلوماتية تمييزاً لها عن مجتمعات ما قبل المعلوماتية التي انصرفت عن التحدي في الإبداع والإنتاج، وقنعت بالتبعية والاستهلاك شأن ما يوصف الآن بمجتمعات ما قبل التاريخ؟

يجمع الباحثون على أن النظام العالمي يعيش مخاض تحول جذري عميق، وأن العالم منذ نشوء منظومة التحالف الغربي عام 1949 لم يشهد حالة سيولة كما هي خلال العقدين الأخيرين، وجرت محاولات وضع سيناريوهات مختلفة تتنبأ بالمستقبل القريب، وتؤكد جميعها أن الولايات المتحدة ستواجه تحديات دولية كبرى تختلف عما واجهته سابقاً، وهذه التحولات هي نتيجة ضخامة وسرعة التغيرات الناجمة عن عالم يتعولم، ويناقشون قضايا ومحاور جديدة ومنطق الحراك العالمي الجديد.

ويؤكد التوجه العام للسيناريوهات أن غالبية البلدان ستستفيد من الاقتصاد العالمي المتطور والمتنامي ولكن بشروط أهمها:

* أن تملك مكانة في العالم والتكنولوجيا إبداعاً وتطويراً معرفياً وتقانياً.

* توفر نظام حكم ديمقراطياً ومؤسسات ديمقراطية.

* تعزيز تطوير رأسمال البشري، أي النهوض بالإنسان وبثقافته ليكون على مستوى التحدي المنشود من حيث التعليم العصري، والقدرة الإبداعية العلمية، والفعالية الحرة الاجتماعية والإنتاجية، والمشاركة السياسية، وحرية الاتصال وتدفق وتلقي استثمار المعلومات في شفافية على صعيد عالمي، واختيار المستقبل.

يمكن لهذه البلدان أن تعبر قفزاً مراحل التنمية، وتتخطى المراحل التي اضطرت البلدان المتقدمة إلى عبورها، وهنا تتجه الأنظار إلى بلدان شرق وجنوب آسيا، وبخاصة الصين والهند، فهما مهيأتان جيداً لتصبحا رائدتين في مجال العلم والتكنولوجيا.. ثم هناك البرازيل، إذ إن هذه بلداناً قبلت التحدي واستوعبت حقيقة العولمة كمعلم حضاري أساسه العلم والتكنولوجيا، وفعالية الإنسان، بينما بلداننا غائبة عن الساحة.

العدد 1105 - 01/5/2024