الانحطاط الفرنسي وأنشودة الحب للكيان الصهيوني

د. صياح فرحان عزام:

من الواضح أن فرنسا، بقيادة ماكرون، تمضي بعيداً في الابتعاد عن تقليد ديغولي تجسّد في اتخاذ موقف متوازن تجاه قضايا الشرق الأوسط، وهو ما سُمّي (السياسة العربية لفرنسا)، فقد قررت منذ السابع من تشرين الأول (أي منذ عملية طوفان الأقصى) التماهي مع حكومة العدو الصهيوني وحربها المجرمة في غزة.

فخلال رحلاته إلى المنطقة، التقى ماكرون القادة الصهاينة، معلناً التزامه المطلق بدعم عدوانهم، لكنه خلال لقائه رئيس السلطة الفلسطينية على عجل لم يذكر أيّ شيء عن حملات القتل والتهجير لأهالي غزة ومعاناة الجرحى والمصابين، وعن قطع إمدادات الماء والكهرباء والغذاء عن غزة، والأسوأ من ذلك هو حديثه عن إمكانية الدعوة لإنشاء تحالف ضد المقاومة في غزة، على غرار الذي شُكّل لمحاربة الإرهاب بقيادة الولايات المتحدة، الأمر الذي أثار استياء كبيراً في الخلية السياسية الخارجية لقصر الإليزيه التي أُجبرت، مدفوعةً بالخجل، على تعديل التصريحات الرئاسية المتطرفة.. وقد شاركت رئيسة الجمعية الوطنية والحزب الرئاسي في زيارة تل أبيب والتقاط الصور مع قادة الكيان الصهيوني، حتى إن وزير الجيوش الفرنسية لوكورنو اعترف بأن فرنسا تقدم معلومات استخبارية مهمة لإسرائيل، ومنذ عملية طوفان الأقصى اعتمد وزير الداخلية الفرنسي نهجاً قمعياً شرساً في مواجهة التظاهرات الداعمة للفلسطينيين، وهذا النهج يشكّل ويكرّس ظاهرة غير مسبوقة في فرنسا.

والسؤال: كيف يمكن تفسير مثل هذه القطيعة مع النهج الديغولي، لإنهائه وإعادة وصل ما انقطع مع التاريخ الاستعماري المديد؟

لا شك في أن اختفاء النخب الديغولية القديمة، وصعود النخب التي تغذّت على الانحياز الأطلسي، منذ الحادي عشر من أيلول عام 2001، والتي أصبح كيان الاحتلال الإسرائيلي بالنسبة لها حليفاً موثوقاً لا غنى عنه، هي وراء هذا التبدّل في السياسة الفرنسية، وقد كان دومينيك دوفيلبان آخر المعبّرين عن الثوابت الديغولية، عندما عارض الحرب الأمريكية البريطانية على العراق عام 2003.

لقد كان أول تمظهر للاستدارة الفرنسية المشار إليها أعلاه هو عودة فرنسا إلى القيادة الموحدة لحلف الناتو في عهد ساركوزي، وتلتها أنشودة الحب لإسرائيل من الثنائي (هولاند – فالس)، والبعض يفسر هذه الاستدارة بالانحدار التاريخي لفرنسا كما تجلّى في منطقة الساحل تحت حكم هولاند، وقرارها الالتحاق بالولايات المتحدة لإنقاذ ما تبقّى لها من نفوذ.

مع هذا من غير الممكن عدم ربط هذا التوجه السياسي المؤيد لكيان الاحتلال الإسرائيلي وللصهيونية العالمية بشكل عام، بالتوجه الثقافي الرجعي الغربي ضد العالم الثالث وضد العالم الإسلامي خاصة، ولاسيما العرب.

والجدير بالذكر أنه منذ عام 2004 انطلقت الموجة الفرنسية المعادية للإسلام مع إقرار القانون الذي يحظر ارتداء الحجاب في المدارس، ثم توغلت ظاهرة المعاداة هذه في المؤسسات السياسية والإعلامية الفرنسية، هذا إلى جانب التركيز من النخب الفرنسية على ما يسمّونه (مخاطر الاستبدال الكبير)، أي حلول المهاجرين وأبنائهم في مكان الفرنسيين الأصليين.

ومع بداية (طوفان الأقصى) تشهد شاشات التلفزة الفرنسية والشبكات الاجتماعية الفرنسية موجة مذهلة من الكراهية للفلسطينيين خاصة وللعرب عامة، ونشاطاً قوياً لتبرير المجازر في غزة.

علاوة على ذلك، فإن تجمّع الفاشيين والنشطاء اليمينيين ومروّجي الدعاية الصهيونية يسعون إلى تبرير المذابح الإسرائيلية بحق المدنيين الفلسطينيين، وبالتالي فإن الغالبية العظمى من الداعمين السياسية والثقافيين لإسرائيل في عدوانها على غزة، هم أيضاً في مقدمة الهجوم العنصري المستمر ضد المسلمين والعرب والسود والمهاجرين، وهذه الغالبية أيضاً هي التي تهاجم وتهدّد يومياً حزب (فرنسا الأبية) بقيادة ميلاشون، الذي يمثل المعارضة اليسارية الوحيدة ذات المصداقية في فرنسا، والتي على الرغم من الضغوط الهائلة عليها، ترفض وصف منظمات المقاومة الفلسطينية بأنها منظمات إرهابية، وتجدّد دعمها للقضية الفلسطينية.

ومما يلفت النظر أيضاً أن التماهي الفرنسي مع الكيان الصهيوني لم يحقّق مكاسب لفرنسا، بل قام الجيش الصهيوني مؤخراً بقصف مبنى (المعهد الفرنسي) و(مركز وكالة الصحافة الفرنسية) في غزّة، ما يُعَدّ دليلاً واضحاً على ازدراء كيان الاحتلال لفرنسا ومصالحها.

العدد 1104 - 24/4/2024