ألبس الكوفية

ألكسندر بروخانوف (رئيس تحرير جريدة (الغد) الروسية.

ترجمة: رعد مسعودي:

غزة هي المقصلة التي يجري عليها إعدام فلسطين. يقوم الجلادون ذوو النجوم السداسية بإحضار النساء الحفاة والرضّع وكبار السن الضعفاء ورجال الدين المسلمين والكهنة الأرثوذكس والأطباء والصحفيين إلى المقصلة، ويجري إعدامهم بشكل مروع! فيقطعون أذرعهم وأرجلهم، ويكسرون عظامهم، ويقلعون أعينهم، وينزعون ألسنتهم بكماشات نار.

على المقصلة هناك صرخات وآهات وأصوات طقطقة وأنهار من الدم.

واحتشدت شعوب العالم حول المقصلة وحدقت في الإعدام.

البعض يتأوه ويصر بأسنانه، والبعض الآخر يغمض عينيه في رعب، والبعض الآخر يظل صامتاً كئيباً.

ولا يستطيع أحد أن يمسك بيد الجلاد ويمزق الفأس السداسي منها.

دماء غزة انطرشت على كل الأمم. وفي غزة، ومعها فلسطين، يجري إعدام الإنسانية جمعاء. ربما يتوقف علماء السياسة عن الحديث عن نهاية العالم الأحادي القطب. وها هي ذي أحادية القطب ترسل حاملات طائراتها العملاقة إلى شواطئ لبنان، وتعلق مجموعاتها الفضائية فوق الشرق الأوسط.

ها هو ذا: عالم أحادي القطب، مدينة أمريكية على تل، حيث يقوم العملاق الأمريكي بمسح البشرية جمعاء، ويرعى الشعوب بقضيب حديدي، ويدق مسماره المزور في رؤوس المتمردين.

أمريكا تقتل غزة.

إسرائيل هي المخلب في إصبع أمريكا الملتوي. وبهذا المخلب تسحق أمريكا العديد من الدول وبضمنها روسيا.

إن القوات الروسية في أوكرانيا تقاتل أمريكا، تماماً كما يرد المقاتلون الفلسطينيون في أنفاق غزة على الوحش العملاق أمريكا بصواريخهم محلية الصنع.

الجندي الروسي بالقرب من أفديفكا والرامي الفلسطيني في غزة هما جنديان من الكتيبة نفسها التي تقاتل ضد أمريكا.

شكراً غزة، بفضل عذابك وألمك ودمك، حولت بعض القوى القاتلة عن روسيا.

يا روسيا، لا تترددي في الاختيار، قرِّري من أنت: غزة أم إسرائيل؟

إن وقت التسوية يقترب من نهايته. يقترب الوقت الموحل غير المستقر من نهايته، فقد كان من الصعب التمييز بين من بالداخل والغريب. غزة هي كشاف ناري دموي، يرشّ العالم بنوره المبهر.

لقد اختفى الظل الجزئي. هناك نور وهناك ظلمة. في هذه المجزرة التي وقعت في غزة، يرتدي نصف البشرية على عجل القلنسوة اليهودية، بينما النصف الآخر يلفّ الكوفية.

الكوفية تشبه الراية التي يخوض الفلسطينيون تحتها المعركة.

الكوفية مثل الكفن الذي يلفّ فيه الأبطال القتلى. الكوفية تشبه الضمادة التي تضمد جراح غزة الدموية.

الكوفية تشبه مفرش المائدة بأطباق وجبات الجنازة.

يا أيها الإنسان! انظر إلى تفكيرك، ماذا ترتدي: القلنسوة اليهودية أم الكوفية؟

ما أجمل الشرق الأوسط_ أرض الحكماء والأنبياء، والأشعار والأناشيد العجيبة، والمياه الزمردية، والحدائق العطرة!

كم أحببت السفر في جميع أنحاء الشرق الأوسط! هذا هو الطريق من الجزء الأكبر من حجر أبو الهول، الذي كُسر أنفه بقذائف مدفعية نابليون، عبر سيناء، عبر قناة السويس، الصحاري الحارقة، حيث ازدهرت شجيرة الأدغال المحترقة قبل موسى.

إيران، مظلمة كالرمّانة، بلد المساجد ذات المرايا، ومترجمو العهود القديمة، والحراس المحاربون الشجعان، تغذيها عبقرية سليماني.

طرابلس، حيث سافرت عبر الصحراء الليبية السوداء الجليدية. كانت هناك مدن قديمة على حافة البحر الأبيض المتوسط ​​الأخضر، واستقبلني القذافي في خيمة ضخمة، تضج بها الريح.

بغداد ذات القصور وحدائق الجنة، حيث جلست على ضفاف نهر دجلة، تناولت السمك المشوي، ومرت بجانبي الشاحنات العسكرية، وبنى الجنود حواجز من أكياس الرمل، استعداداً لحرب وشيكة.

سوريا الإلهية مع المسجد الأموي، تخترق مئذنته إلى اللون الأزرق السماوي، ومنه، بحسب النبوءات، سينزل المسيح وسيحدث مجيئه الثاني. لبنان مع وادي البقاع والكروم عند سفح بعلبك – مجتمع قديم غامض تتنفس فيه أرواح القياصرة.

لكن الأجمل على الإطلاق هي غزة.

وفي غزة، ألصقت شمعة من الشمع الذائب على الحجر الداكن لكنيسة أرثوذكسية وسكرت من دخان البخور الحلو.

في غزة، زرعت شجر زيتون في التربة الحمراء، وسقيت شجرتي بالماء البارد وشربته بنفسي من كوب من الفخار.

في غزة، مشيت عبر نفق تحت الأرض، وبجانبي كان هناك فلسطينيون مفتولو العضلات يحملون حزماً غامضة على ظهورهم.

وفي غزة التقيت بشهداء مرّوا عبر الزنازين الإسرائيلية.

عيونهم السوداء الضخمة تألقت بمعاناة دائمة. في غزة، تحدثت مع طلاب الجامعة، ونظرت إلى العديد من العيون الذكية والحساسة والمتسائلة. وفي غزة، كنت أشرب الشاي اللذيذ بصحبة نساء روسيات، كان أزواجهن، الأطباء الفلسطينيون، قد أخذوهن ذات يوم من الأراضي الروسية، وكان من الغريب والرائع بالنسبة لي أن أسمع موسكو وفولوغدا يهتفان تحت هذه السماء الشرقية.

يا غزة، أفكر فيك وأمسح دموعي بالكوفية.

العدد 1105 - 01/5/2024