استهداف مستشفيات القطاع: فصل من فصول الإبادة المجتمعية

د. ماهر الشريف:

منذ بدء الحرب العدوانية التي تشنها حالياً على قطاع غزة، جعلت القوات الإسرائيلية مستشفيات القطاع، وأطقمها الطبية وسيارات إسعافها، والنازحين الفلسطينيين الذين لجؤوا إليها، هدفاً رئيساً لها. ففي صباح يوم الأربعاء، في 15 تشرين الثاني (نوفمبر)، اقتحمت هذه القوات مجمع الشفاء الطبي، وذلك بعد أن فرضت، خلال الأيام السابقة، حصاراً خانقاً عليه، اضطر إدارته، يوم الثلاثاء، إلى حفر مقبرة جماعية في باحته بغية دفن عشرات الشهداء فيها. وقال مدير المستشفى، الطبيب محمد أبو سلمية، لوكالة فرانس برس إنه (تمّ دفن 179 جثماناً يوم الثلاثاء في مقبرة جماعية)، وإن (هناك جثامين متناثرة في ممرات المجمع، ولم تعد غرف التبريد في المشارح مزودة بالكهرباء لأنه لم تدخل قطرة وقود واحدة إلى قطاع غزة منذ بدء الحرب بين إسرائيل وحماس)، مضيفاً أن (سبعة جثامين لأطفال خدج دفنت أيضاً جراء موتهم بسبب انقطاع الكهرباء وافتقاد الأكسجين). وقال صحافي يعمل مع وكالة فرانس برس داخل المستشفى (إن رائحة الجثث المتحللة كانت خانقة).

 

أوضاع مجمع الشفاء الطبي الكارثية

اعتاد الجيش الإسرائيلي، في جميع حروبه السابقة على قطاع غزة، أن يضع مستشفيات القطاع ضمن بنك أهدافه الرئيسية. وهو ما فعله، ولكن على نطاق أوسع وبصورة أكثر وحشية، خلال الحرب التي يشنها هذه الأيام على القطاع، إذ قامت طائراته بالإغارة على أقسام هذه المستشفيات وسيارات الإسعاف التابعة لها، الأمر الذي أدى حتى الآن إلى استشهاد 199 من أفراد أطقمها الطبية، فضلاً عن معاناتها من نقص الوقود، وانقطاع التيار الكهربائي، وعدم كفاية إمدادات المياه، ونقص الأدوية والإمدادات الطبية الأساسية. فمنذ مساء يوم الجمعة، في 10 تشرين الثاني (نوفمبر)، انقطعت الكهرباء والإنترنت في مجمع الشفاء الطبي، وبات الأكسجين مفقوداً، وتحوّل المجمع إلى (منطقة حرب مفتوحة)، بحسب وزارة الصحة في القطاع، إذ لا يزال مئات المرضى وأفراد الأطقم الطبية وآلاف المدنيين محاصرين هناك في أوضاع كارثية، وتحتشد دبابات إسرائيلية على أبوابه، بينما تتواصل الغارات الجوية في المناطق المحيطة به طوال الليل، ما أسفر عن استشهاد 13 شخصاً وإصابة العشرات بجراح. (نحن تحت الحصار)، يقول الجراح مروان أبو سعدة: (هناك إطلاق نار وقصف في كل مكان حول المستشفى، ولا يمكن لأحد أن يغادر أو يدخل؛ الوضع صعب، ونحن نعتني بعدد كبير جداً من المصابين الذين ما زالوا في المستشفى). وفي صباح يوم الأحد في 12 من هذا الشهر، تعرض المستشفى لغارة جوية إسرائيلية دمرت بالكامل مبنى قسم أمراض القلب فيه. وقال نائب وزير الصحة في حكومة (حماس) يوسف أبو ريش لوكالة فرانس برس إن (650 مريضاً، من بينهم نحو أربعين طفلاً في الحاضنات، موجودون في هذا المستشفى وجميعهم يتهددهم الموت)، وخصوصاً إذا لم يتم إيصال الوقود سريعاً إليه. وبينما طالب مدير المستشفى، محمد أبو سلمية، (المجتمع الدولي بالضغط على الحكومة الإسرائيلية حتى تتوقف عن استهداف المستشفيات وسيارات الإسعاف)، عبّر المدير العام للجنة الدولية للصليب الأحمر روبرت مارديني، في 11 من هذا الشهر، عن (الصدمة والهول من الصور والمعلومات الواردة من مستشفى الشفاء). وكان قد أعلن في وقت سابق أن المستشفى استقبل (نحو خمسين جثماناً بعد قصف مدرسة صباح الجمعة في 10 تشرين الثاني (نوفمبر)، وقال صحافي في وكالة فرانس برس إنه رأى (سبعة جثامين على الأقل بالقرب من المستشفى)، في حين قال أب يبلغ من العمر 32 عاماً، ويطلق على نفسه أبو محمد، للوكالة، إنه لجأ إلى منطقة الشفاء غرب مدينة غزة مع 15 من أقاربه بعد القصف الذي استهدف الحي الذي يسكن فيه شرق مدينة غزة)، وأضاف: (لا يوجد مكان آمن، لقد ضرب الجيش مستشفى الشفاء، ولا أعرف ماذا أفعل بعد الآن). وصباح يوم الجمعة نفسه، لقي 15 شخصاً حتفهم، وأصيب 60 بجراح، لدى قيام طائرة إسرائيلية بالإغارة على سيارة إسعاف كانت ضمن قافلة (تنقل جرحى في طريقهم إلى المستشفيات في مصر). وأظهرت صور لوكالة فرانس برس مدنيين يحملون جرحى ملطخين بالدماء، وكان آخرون ممددين على الأرض، ويبدو واضحاً أنهم مرميون بفعل الانفجار. وإثر هذه الغارة، قال رئيس منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس إنه (شعر بصدمة عميقة)، بينما أعرب الأمين العام للأمم المتحدة عن (هوله) من هذه الغارة، وقال: (أشعر بالهول من الهجوم الذي تم الإبلاغ عنه في غزة على قافلة سيارات الإسعاف خارج مستشفى الشفاء)، وأضاف في بيان: (صور الجثث الملقاة في الشارع خارج المستشفى مفجعة).

 

المستشفيات الأخرى في القطاع تواجه الأوضاع الكارثية نفسها

إلى جانب مستشفى الشفاء، لا يزال الوضع معقداً في مستشفيات أخرى في قطاع غزة، بحسب محمد زقوت، مدير المستشفيات في القطاع. ففي مدينة غزة، بات المرضى (في الشوارع بلا رعاية) بعد (الإخلاء القسري) لمستشفيي الأطفال، النصر والرنتيسي. وكانت الطائرات الحربية الإسرائيلية قد استهدفت (بصورة مباشرة) مستشفى الرنتيسي التخصصي للأطفال في قطاع غزة، يوم الخميس في 9 تشرين الثاني (نوفمبر)، وأعلنت وزارة الصحة في غزة، أن حريقاً اندلع داخل هذا المستشفى، إثر القصف الإسرائيلي الذي طاله. وفي يوم الجمعة، في 10 من هذا الشهر، استهدفت نيران قناصة إسرائيليين مستشفى القدس في تل الهوى، ما أدى إلى مقتل شخص على الأقل وإصابة 20 آخرين، أغلبهم من الأطفال، وذكر الهلال الأحمر الفلسطيني في بيان له أنه: (تدور حالياً اشتباكات عنيفة وقناصة الاحتلال يطلقون النار على مستشفى القدس، ما أدى إلى سقوط ضحايا في صفوف النازحين). وفي بيان آخر، ذكر الهلال الأحمر أن قذائف طالت وحدة العناية المركزة في المستشفى، ثم أُعلن، يوم الأحد في 12 من هذا الشهر، أن مستشفى القدس قد توقف عن العمل بسبب نقص الوقود والكهرباء. وبينما يخضع نحو مئة من المرضى وأفراد الطواقم الطبية لحصار الدبابات الإسرائيلية في مستشفى الحلو في المدينة، بات مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة، الذي يضم مئات المرضى والنازحين، يفتقر إلى الوسائل الكفيلة بضمان تشغيله، ويعاني من قطع مستمر للكهرباء ما يؤثر على مرضى الكلى خلال جلسات الغسيل التي يخضعون لها. وفي المستشفى الإندونيسي في بيت لاهيا شمال قطاع غزة، يقول المريض يوسف النجار، وهو يرقد على السرير، إنه ينتظر إجراء عملية جراحية له، لكن (الآلات معطلة كما ترون، ولا توجد كهرباء؛ أنا عطشان جداً، لكن لا يُسمح لي بالأكل أو الشرب حتى إجراء العملية). وأفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أن العيادة السويدية في مخيم الشاطئ للاجئين، غرب مدينة غزة، دمرت يوم السبت في 11 من هذا الشهر بعد غارة جوية، بينما لجأ 500 شخص إلى هناك. وفي اليوم نفسه، أصابت غارة أخرى مستشفى المهدي، ما أسفر عن مقتل طبيبين وإصابة كثيرين آخرين. أما في مدينة خان يونس جنوباً، فيواجه 90 مريضاً خطر الموت بسبب انقطاع الكهرباء في مستشفى الأمل الذي يؤوي نحو 9000 نازح، حيث توقف المولد الوحيد عن العمل، بحسب الهلال الأحمر الفلسطيني. وفي المستشفى الأوربي في المدينة نفسها، وصف طبيب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الدكتور توم بوتوكار، في تغريدة على x (تويتر سابقاً) (المهمة المهلكة للأطباء الذين يستقبلون الجرحى الذين يعانون من حروق على كامل أجسامهم، ومن جراح ناجمة عن شظايا القذائف ومن التهابات). بينما أصبح مستشفى ناصر ملجأً لآلاف النازحين الذين نزحوا من شمال القطاع إلى جنوبه هرباً من القصف الإسرائيلي المتواصل.

 

ظروف عمل الأطباء القاسية

في ظل انقطاع الكهرباء والماء، وافتقاد الوقود والمواد الطبية اللازمة، يقوم الأطباء بإجراء عملياتهم الجراحية باللجوء إلى المصابيح اليدوية، وأحياناً كثيرة من دون تخدير، بينما تفيض مشارح المستشفيات، وتتم رعاية المرضى الموجودين في الممرات في الظلام. ويقول عاطف الكحلوت، مدير مستشفى بيت لاهيا الإندونيسي، إن (جهاز المسح والأشعة وبعض غرف العمليات وأسرة العناية المركزة كلها توقفت عن العمل)، بحيث بات المستشفى (يعمل بنسبة 30 إلى 40% من طاقته). وقال أحد الأطباء، وهو يحاول إعادة رضيع إلى الحياة: (نعمل يدوياً قدر المستطاع، لا يوجد تخدير، حتى أنبوبة الأوكسجين يدوية). ونشر أطباء صوراً على الإنترنت تظهرهم وهم يعملون على ضوء الشموع أو يضيئون أنفسهم بالهواتف المحمولة، بسبب نقص الكهرباء في المستشفيات.

النظام الصحي في قطاع غزة (يركع على ركبتيه)؛ هذا هو التنبيه الذي أطلقه رئيس منظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، أمام مجلس الأمن الدولي، وقال إن نصف المستشفيات الـ36 في قطاع غزة لم تعد تعمل (على الإطلاق)، وأضاف: (من المستحيل وصف الوضع على الأرض؛ فممرات المستشفيات مكتظة بالجرحى والمرضى والمحتضرين، والمشارح مكتظة بالجثامين، والعمليات الجراحية تجري من دون تخدير، وعشرات الآلاف من الأشخاص الذين لجؤوا إلى المستشفيات يخضعون للحصار)، معدّداً (أكثر من 250 هجمة على القطاع الصحي (المستشفيات والعيادات وسيارات الإسعاف والمرضى) في غزة والضفة الغربية منذ بداية الحرب)، ليخلص إلى أن: (أفضل طريقة لدعم هؤلاء العاملين الصحيين هي منحهم الوسائل التي يحتاجون إليها للرعاية: الأدوية والمعدات الطبية والوقود لمولدات المستشفيات)، داعياً (إلى زيادة المساعدات الإنسانية). ومن جهته، دعا مدير الهلال الأحمر الفلسطيني، مروان الجيلاني، عبر الفيديو كونفرانس، أعضاء المجلس إلى (بذل كل ما في وسعهم لمنع المزيد من الوفيات والمزيد من المعاناة). وندد بشكل خاص بالوضع في مستشفى القدس في مدينة غزة، الذي تعرض، بحسب الهلال الأحمر، لإطلاق نار من قبل جنود النخبة الإسرائيليين يوم الجمعة.

 

إنه فصل من فصول الإبادة المجتمعية

(لا يمكن للعالم أن يظل صامتاً بينما تتحول المستشفيات، التي ينبغي أن تكون ملاذات آمنة، إلى مشاهد موت ودمار ويأس)، هكذا تفاعل المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، يوم الاثنين في 13 من هذا الشهر، مع الوضع البائس الذي يعاني منه المرضى في مستشفيات قطاع غزة، داعياً إلى وقف فوري لإطلاق النار. وكان (مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (أوتشا)) قد أعلن، في اليوم السادس والثلاثين من الحرب، أن 20 من أصل 36 مستشفى في قطاع غزة باتت (خارج الخدمة)، في حين حذرت الأمم المتحدة في اليوم نفسه، على لسان مدير وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في غزة توماس وايت، من أن عمليات الوكالة الإنسانية (ستتوقف خلال 48 ساعة) بسبب نقص الوقود في قطاع غزة، حيث أصبحت المستشفيات في شمال القطاع، المحاصرة في القتال، (خارج نطاق الخدمة). وقالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن (تدمير المستشفيات في غزة أصبح لا يطاق ويجب أن يتوقف)، مضيفة أن النظام الصحي وصل إلى (نقطة اللاعودة).وبينما يتذرع الاحتلال الإسرائيلي بأن هذه المستشفيات، وخصوصاً مستشفى الشفاء، (تؤوي مقاتلين من حماس وبنى تحتية استراتيجية) وأن حركة (حماس) تستخدم من فيها (دروعاً بشرية)، فإن جمعية (هيومن رايتس ووتش) الإنسانية أكدت أنها (لم تجد أي دليل على وجود عسكري فلسطيني بالقرب من مستشفى الشفاء)، وأن إسرائيل (لم تقدم حتى الآن أدلة على أن المستشفيات تستخدم لأغراض عسكرية). والواقع أن استهداف مستشفيات قطاع غزة وأطقمها الطبية ومعداتها ما هو سوى فصل من فصول الإبادة المجتمعية التي صارت تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، خلال حروبها على الشعب الفلسطيني، في الضفة الغربية وخصوصاً في قطاع غزة، مستهدفة بالموت ليس عشرات الآلاف من أبنائه وبناته فحسب، بل ومستهدفة كذلك بالتدمير كل بناه التحتية ومقومات حياته، من مستشفيات ومدارس وجامعات وأبنية وطرقات ومحطات توليد طاقة ومساجد وكنائس، وذلك بهدف إشعار هذا الشعب بالهزيمة ومنعه من الاستمرار في مقاومته، وخلق الظروف التي لا تترك أمامه من خيار سوى ترك أرض وطنه؛ وهو هدف كان حاضراً في أجندة حكام إسرائيل الصهيونيين منذ بدء حربهم هذه على قطاع غزة وسكانه، وهو ما جرى التعبير عنه صراحة على لسان عضوين من أعضاء الكنيست الإسرائيلي هما داني دانون، من حزب (الليكود)، ورام بن براك، من حزب (يوجد مستقبل)، في مقال نشراه في (الوول ستريت جورنال)، ودعيا فيه إلى (صوغ خطة لانتقال سكان قطاع غزة إلى دول في العالم توافق على استقبالهم)، مما (سيساعد على التخفيف من معاناة السكان، ويحسّن الوضع في غزة)، معتبرين (أن هذا ليس واجباً أخلاقياً، بل هو فرصة لدول العالم للوقوف جنباً إلى جنب، وإظهار التعاطف والالتزام بحل مستدام، يساعد على استقرار الشرق الأوسط كله(). وسارع وزير المال بتسلئيل سموتريتش، والوزير الثاني في وزارة الحرب، إلى الثناء على الاقتراح، فكتب: (هذا هو الحل الإنساني الصحيح لسكان غزة، وللمنطقة كلها، بعد 75 عاماً من اللجوء والفقر والمخاطر)، مقدّراً أن (استيعاب اللاجئين في دول من العالم حريصة فعلاً على مصلحتهم، بدعم ومساعدة اقتصادية سخية من المجتمع الدولي، بما فيه إسرائيل، هو الحل الوحيد لوضع حد للمعاناة، وأمل لليهود والعرب في آن معاً)!

العدد 1105 - 01/5/2024