في غياب الوعي المعرفي

عبد الرزاق دحنون:

في الأمثال: (وافق شَنٌّ طَبَقَة)، وقصّة المثل مرويّة في (مَجْمع الأمثال)_ للميداني، وقد سُقتُ هذا المثل ليكون إِمامي في هذا الحديث، الذي آمل من خلاله ألا أسبّب لنفسي أو لغيري الأذى. ولكن لا بدّ ممّا ليس منه بدّ. في بعض الأحيان يُعرف الكاتب أو المفكر أو الباحث من خلال كتبه، ولكن عندما يظهر على شاشة التلفاز ننكر معرفته، فهذا الشخص الذي يتحدث أمامك في ندوة عامة أو في لقاء متلفز لا ينطبق كلامه على ما قرأت له من مؤلفات مشهورة في المكتبات، ونعجب أشدَّ العجب من هذه المفارقة المذهلة والعجيبة في دلالاتها. ففي الأمس القريب استمعتُ إلى حديث باحث عربي في الأديان والتاريخ وتراث الشرق القديم في لقاء متلفز، وصُدمت صدمة العمر، مع أنني أعرف تماماً من يكون، فقد رافقني من خلال كتبه من أيام فتوتي وشبابي (عِشرة عُمر) كما يقال، فلماذا تنكره نفسي الآن؟

في كتب التراث وفي الحديث عن الشخصيات العامة، تأتي عبارة: عقلُه أكبر من علمه. أي أنه مع علمه لديه عقلٌ راجح يخدمه كثيراً، وقد يكون هذا العقل أكبر من الجانب المعرفي لديه. وفي بعض الأحيان يعبّر عن أشخاص لديهم جانب كبير من العلم والمحفوظات والكتب لكن جانب العقل والتدبّر والفهم، أو قُل (الوعي المعرفيّ) لديهم أقلّ من ذلك، فيُقال: علمُه أكبر من عقله. أيْ إنّ لديه علماً ومحفوظات. وقد يكون لديه مكتبة كبيرة لكن ليس هناك جانب عقلي يخدم العلم كما تحضر لديه المعلومات. قد يكون عقل الرجل أكبر من علمه، فلا يضرّه بل ينفعه، وقد يكون علمه أكبر من عقله فهذا يضرّه ولا ينفعه.

كان عبد الله بن المقفع والخليل بن أحمد الفراهيدي يحبّان أن يجتمعا، فاتفق لقاؤهما، فاجتمعا ثلاثة أيام يتحاوران، فقيل لابن المقفع: كيف رأيته؟ فقال: وجدتُ رجلاً عقله زائد على علمه. وسُئل الخليل عنه فقال: وجدتُ رجلاً علمه فوق عقله. قال بعض العلماء: صدَقا، فإن الخليل مات حتف أنفه في خصٍّ وهو أزهد خلق الله، وتعاطى ابن المقفع ما كان مستغنياً عنه حتى قُتل أسوأ قتلة.

كان الفرن مشتعلاً، وقُيّد ابن المقفع إليه. توقّف أمامه، فقال له سفيان بن معاوية: والله يا ابن الزنديق لأحرقنّك بنار الدنيا قبل الآخرة، وذلك يعود إلى كون ابن المقفع كان يعامل والي البصرة بازدراء وسُخرية، فقد كان لسفيان أنفٌ هائل الحجم، وعندما كان ابن المقفع يلتقيه يحيّيه بقوله: السلام عليكما! فقد كان يعتبر أنفه شخصاً مستقلاً، ملصقاً بوجهه، لهذا تربّص به الوالي حتى جاء الوقت المناسب فألقاه في الفرن. كيف سنحت الفرصة لقتل ابن المقفع؟ وما خطيئته؟ في أغلب الظنّ، افتراضه أن للكلمة خاصيّة سحريّة وفي إمكانها تغيير العالم. سعى في خطوته الأولى لتغيير الذين يستطيعون التغيير، فأرسل إلى المنصور كتاباً صغير الحجم عظيم القيمة سمّاه (رسالة الصحابة) نصح فيه الخليفة لحسن اختيار بطانته وحسن سياسة الرعيّة. سخط الخليفة مما جاء في الرسالة من جرأة تنال من هيبة وقداسة السلطان وحاشيته، فأمر عامله في البصرة بوضع ابن المقفع في الفرن.

ولو عدنا إلى حكاية المثل أعلاه. فأقول: كان هناك رجل من عقلاء العرب يدعى شنّ، لما رغب في الزواج قال: والله لأطوفنّ حتى أجد امرأة مثلي أتزوجها، وبينما هو في مسيره للبحث، رافقه رجل في الطريق، فسأله شنّ عن وجهته؟ فقال له الرجل: أنا في الطريق إلى قريتي.  فرافقه شنّ حتى إذا سارا في طريقهما، قال له شنّ: أتحملني أم أحملك؟ فقال له الرجل: يا جاهل، أنا راكب وأنت راكب، فكيف أحملك أو تحملني؟! فسكت شنّ.

وظلّا على سيرهما حتى إذا قربا من القرية المقصودة، إذا بزرع حصيدة قد استحصد، فقال شنّ للرجل: أترى هذا الزرع قد أُكل أم لا؟  فقال له الرجل: يا جاهل، ترى نبتاً مستحصداً فتقول: أُكل أم لا؟ فسكت أيضاً شنّ، ولم يردّ على كلام الرجل، حتى إذا دخلا القرية، وجدا أمامهما جنازة، فقال شنّ: أترى صاحب النعش حيّاً أم ميتاً؟ فتعجّب الرجل من سؤاله!

فلما وصلا إلى القرية، رفض الرجل أن يترك شنّ حتى يصحبه معه إلى منزله، وكان له ابنة يقال لها: طبقة، فلما دخل عليها أبوها، حدّثها بما دار بينه وبين شنّ من حديث، فقالت: يا أبتِ ما هو بجاهل، أمّا قوله: أتحملني أم أحملك، فإنما قصد بها أتحدّثني أم أحدّثك حتى نقطع طريقنا، ولا نشعر بطول المسافة، وأمّا قوله: أترى هذا الزرع أُكل أم لا؟ فإنما قصد بها هل باعه أهله؛ فأكلوا ثمنه أم لا؟ وأمّا قوله في الجنازة فقصد به: هل ترك المتوفّى ولداً يحيا به ذِكره أم لا؟  ولمّا فطن الرجل لمقصد شنّ، خرج إليه وقعد معه، وأخبره بجواب أسئلته التي طرحها عليه، فقال شنّ: ما هذا بكلامك، فأخبِرني من صاحبه؟ قال الرجل: ابنتي طبقة، فلما سمع شنّ بها، ورأى رجاحة عقلها، خطبها منه، وزوّجه الرجل إيّاها وحملها إلى أهله، فلما عرفوا عقلها ودهاءها قالوا: وافق شَنٌّ طَبَقَة.

من الأشياء البسيطة التي لا نحتاج معها إلى برهان أن يتحدث المفكّر أو الباحث أو الكاتب كما يكتب، ولكن المفاجئ، أن العديد من المفكرين والباحثين والمؤلفين المعاصرين، والذين نعرفهم جيداً من خلال كتبهم، ننكر معرفتهم عندما نستمع إلى حديثهم في التلفاز أو عبر وسائل الإعلام المختلفة. وفي العادة نلتمس لهم عذراً، فقد يكون الكاتب في تلك الدقائق من اللقاء في ضيق من أمره، فيكون حديثه مضطرباً مفكّكاً يفتقد التركيز المطلوب في هذه الحال، أو قد تكون أسئلة الصحفي ساذجة، لأن السؤال الجيد يستدعي جواباً أجود منه، هكذا تعلمنا. ومع غياب كلّ الأعذار نجد الكاتب متلعثماً يُعجم في القول أكثر مما يُفصح.

وسأذكر أمثلة من أسماء كبيرة مهمة في عالمنا العربي، شاهدتها مؤخراً على الشاشة الفضية في التلفاز أو الشاشة السماوية- لون السماء في يوم ربيع مشمس- في اليوتيوب، التي ينطبق حديثها على ما في كتبها، ولن أذكر أسماء من أقصدهم في حديثي، أصحاب (غياب الوعي المعرفي) وأقول: (الحكي لك يا جارة فاسمعي يا كنّة) وذلك لمزيد من إيضاح الفكرة التي أحاول شرح تفاصيلها.

استمِع مثلاً إلى حديث الدكتور نصر حامد أبو زيد -رحمه الله- ستجد في حديثه علماً غزيراً وفكراً ثاقباً، ستجده متزناً، في كلامه الكثير من الأناقة والظرف والمعرفة، وهذا هو المنطق السليم. واستمِع إلى الروائي السوداني الطيب صالح ستجده يتحدث حديثاً شيّقاً يُطابق ما كتبه في آثاره الأدبية الخالدة. لا تملّ من حديثه العذب كأنه ماء فرات في يوم شديد الحرارة. واستمع إلى الروائي البديع خيري شلبي، ستجده من ألطف الناس حديثاً، وأصدقهم فكراً وممارسة. واستمع أيضاً إلى الباحثة المصرية الدكتورة هالة أحمد فؤاد، ستجد في كلامها ثقافة رفيعة في تعابير حيَّة، عميقة، من السهل الممتنع، أنت أمام عالِمة من الطراز الرفيع في فلسفة التصوف الإسلامي بكل تأكيد. ولو ذهبت في الاستماع إلى الكاتب والإعلامي والباحث اللغوي الفلسطيني عارف حجّاوي، ستجد لساناً زلقاً في إيضاح الفكرة التي يحملها على ظهر اللغة العربية الأنيقة وكأن الجاحظ في عصرنا. أو اذهب إلى المغرب العربي واستمع إلى التشكيلي والروائي ماحي بنبين بالفرنسية والمغربية الدارجة، ستجد عنده الكثير من الوضوح وهو صاحب رواية فخمة اسمها (مؤنس الملك) يحكي فيها عن أبيه الذي كان يؤنس ملك المغرب الحسن الثاني في جلساته ويُرافقه دائماً، وفي الوقت نفسه، يحبس الملك ابنه -شقيق الروائي والتشكيلي ماحي بنبين-في معتقل تازمامارت الرهيب لمدة 18 عاماً. وفي العراق تجد المفكر الدكتور عبد الحسين شعبان صاحب أكثر من ستين كتاباً، يتحدّث بلغة متقنة عميقة هادئة، فيها الكثير من النقد لواقعنا، وتجده مؤلفاً مرموقاً وخاصة في كتابه المهمّ (الحبر الأسود الحبر الأحمر – من ماركس إلى الماركسية). أمّا إذا استمعت إلى بعض الأحاديث الباقية ما تزال والمسجلة التي تركها طه حسين فستدرك أنك في حضرة عالم جليل. والأمثلة كثيرة في هذا الباب المفتوح في وسائل الإعلام.

تُصادف ظاهرة (غياب الوعي المعرفي) أيضاً عند العديد من رؤساء الدول وملوكها، وقد يكون الأمر هنا هيّناً ليّناً مبرّراً، لأن رئيس الدولة او الملك أو الأمير أو السلطان ليس من شروط جلوسه في القصر الرئاسي أو على العرش أن يكون فهيماً ومفوَّهاً في الحديث ومفهوماً لدى الرعيَّة. وسنكتشف ذلك في أول خطاب متلفز له. فالكثير من هؤلاء يقرأ نصَّ الخطاب من ورق مكتوب ويكتفي بذلك، وهذا -كثّر الله خيره- من حسناته القليلة، يعرف حدّه فيقف عنده. والبعض منهم لديه مقدرة جيدة في ارتجال خطاباته والبعض الآخر يخطب ارتجالاً، فيظهر من الحماقة الشيء الكثير، ولن أضرب أمثلة حتى لا نقع في محظور الفصيح من البيان، ونُضرب ضرباً مبرحاً من عسس السلطان.

آمل في حديثي هذا ألّا يُحسب كلامي هذا باباً من أبواب التشهير، فقد كان قصدي توضيح فكرة انطباق المُنتج الفكري على صاحبه. وعن سبب غياب الثقافة الفكرية أو (غياب الوعي المعرفي) الذي يجب أن يظهر في حديثهم ولا يظهر، وبدلاً منها يظهر الجهل الفاضح. ألا يستمعون إلى أنفسهم يا ترى؟ فقد بحث شنٌّ طويلاً عن طبَقَة حتى وجدها، فاقترن بها، وضُرب المثل في ذلك، ثمَّ عاشا في ثبات ونبات وخلَّفا الكثير من الصبيان والبنات. ولله في خلقة شؤون. ونحن في بلاد الشام نكتب الهمزة على الواو في كلمة (شؤون) بينما في مصر والخليج يكتبون همزة (شئون) على ياء أو نبرة، ونستغرب منهم ذلك، ولكلّ منَّا حجّته. والحجّة في العربية معروفة. والسلام ختام قبل أن (نخبط في الحلل) على قولة الممثل المصري القدير طلعت زكريا في فيلم (طبّاخ الرئيس).

العدد 1105 - 01/5/2024