مشاريع توطين الغزّيين في سيناء بين الأمس واليوم
د. ماهر الشريف:
في يوم الجمعة الموافق فيه 13 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، أشارت هيئة الأمم المتحدة إلى أن الجيش الإسرائيلي، الذي يشنّ عدوانه الواسع على قطاع غزة، أبلغها مساء الخميس بأن ما يقرب من 1.1 مليون فلسطيني يقيمون في شمال قطاع غزة، سيتوجب عليهم التوجّه إلى جنوب القطاع خلال 24 ساعة. وفي تغريدة نُشرت باللغة العربية بعد بضع دقائق، دعا أفيخاي أدرعي، المقدّم في الجيش الإسرائيلي، سكان قطاع غزة (إلى التوجه جنوب وادي غزة، وحثّهم على الابتعاد من إرهابيي حماس الذين يستخدمونهم كدروع بشرية)، مضيفاً أنه (لن يُسمح لهم بالعودة إلى مدينة غزة إلا إذا صدر تصريح بذلك، ويمنع الاقتراب من منطقة السياج مع دولة إسرائيل). وأثار هذا التصريح مخاوف من أن يكون الهدف الإسرائيلي إرغام قسم كبير من سكان غزة على التوجّه نحو الحدود المصرية، وإحياء مشاريع توطينهم في صحراء سيناء، وخصوصاً في ضوء التصريحات التي أدلى بها نائب وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، داني أيالون، لقناة الجزيرة، والتي ورد فيها: (توجد مساحات لا نهاية لها تقريباً في صحراء سيناء على الجانب الآخر من غزة، ويمكنهم (الفلسطينيون) أن يتركوا (قطاع غزة) إلى تلك المساحات المفتوحة حيث سنعدّ نحن والمجتمع الدولي للبنية الأساسية ومدن الخيام وسنمدّهم بالماء والغذاء).
مشاريع التوطين في سيناء
منذ نكبة فلسطين، كانت الحركة الصهيونية، التي أرادت الأرض من دون شعبها، ترى في صحراء سيناء مساحة واسعة يمكن تهجير الفلسطينيين إليها وتوطينهم فيها.
كانت الحكومة المصرية، التي انبثقت عن ثورة 22 تموز (يوليو) 1952، لا تزال تبحث عن طريقها على صعيد السياسة الخارجية ومشدودة لقضاياها المحلية، عندما وافقت في سنة 1953، عقب شهور من المفاوضات التي أجرتها مع وكالة (الأونروا)، على مشروع يقضي بتوطين نحو 12 ألف أسرة من لاجئي قطاع غزة على أراض في شمال غرب صحراء سيناء بعد جعلها صالحة للزراعة، عبر إيصال نسبة من مياه نهر النيل سنوياً إليها، وخُصص لتنفيذ هذا المشروع، الذي حظي بدعم الإدارة الأمريكية آنذاك، 30 مليون دولار. وقد انطلقت التحركات الشعبية في قطاع غزة ضد هذا المشروع منذ قيام الصحف المصرية بالتلميح إليه في أيار (مايو) سنة 1953، ثم اتخذت هذه التحركات أبعاداً جديدة عقب العدوان الإسرائيلي الواسع على قطاع غزة في 28 شباط (فبراير) 1955، إذ انطلقت، في الأول من آذار (مارس)، تظاهرة حاشدة من (مدرسة فلسطين الرسمية) في مدينة غزة، بمشاركة معلمي المدرسة وطلابها وسائقي السيارات والباصات وأصحاب الدكاكين، الذين راحوا يهتفون: (لا توطين ولا إسكان/ يا عملاء الأمريكان)، (كتبوا مشروع سيناء بالحبر/ وسنمحو مشروع سيناء بالدم)، فواجهتهم قوات الشرطة المصرية بالرصاص الحي، وسقط أول شهيد وهو حسني بلال، عامل النسيج في مدينة المجدل واللاجئ إلى مدينة غزة.
ولم يقتصر التظاهر على مدينة غزة، بل انتشرت التظاهرات في بقية مدن القطاع وقراه ومخيماته، بحيث امتدت من بيت حانون شمالاً حتى رفح جنوباً، وتشكّلت من ممثلي الشيوعيين والإسلاميين والقوميين والمستقلين (اللجنة الوطنيَّة العليا)، للإشراف على الحراك الشعبي وتأطيره، وجرى اختيار مندوبين عنها في كل مخيم من مخيمات القطاع، وتشكّلت لجان لحراسة التظاهرات، الأمر الذي أجبر السلطات المصرية على تفويض مدير المباحث في القطاع سعد حمزة بالتفاوض مع ممثلين اثنين عن (اللجنة الوطنية العليا)، كانا الأمين العام للحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة الشاعر معين بسيسو، وعضو قيادة جماعة الإخوان المسلمين فتحي البلعاوي؛ وإثر تلك المفاوضات، قررت السلطات المصرية إلغاء مشروع توطين الفلسطينيين في سيناء، واتخذت قراراً بتدريب وتسليح الفلسطينيين في المخيمات.
بعد قيام إسرائيل باحتلال قطاع غزة، خلال عدوان الخامس من حزيران (يونيو) 1967، طرح الوزير يغال آلون مشروعاً لنقل أعداد من اللاجئين من قطاع غزة إلى ثلاث مناطق في منطقة العريش المصرية، بتمويل إسرائيلي، على أن تبدأ المرحلة الأولى بـ 50 ألفاً منهم؛ بيد أن ذلك المشروع رفضته مصر رفضاً مطلقاً. فعاد قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي، أريئيل شارون، الذي كان يشن، في سنة 1971، حملة دموية لتصفية المقاومة الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة وطرح مشروعاً لاقتلاع 12 ألف لاجئ من مخيمات القطاع ووضعهم في محطات لجوء أخرى في صحراء سيناء؛ لكن مصر رفضت بشدة هذا المشروع كذلك، و(أصبح رفض التوطين في سيناء جزءاً راسخاً من العقيدة الأمنية والسياسية للدولة المصرية). وعشية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، في خريف سنة 2012، برزت مخاوف من قيام إسرائيل بتنفيذ خطة (تهدف إلى ترحيل الفلسطينيين من غزة إلى سيناء كوطن بديل)، و(تحويل الأزمة الفلسطينية نحو الجارة المصرية، في مواجهة تفاقم حالة الفشل الأمني في سيناء). وذكرت تقارير أن الخطة الإسرائيلية تقضي (بترحيل نحو 1.5 مليون فلسطيني من غزة إلى سيناء والعريش). وتعليقاً على تلك الخطة، قال رئيس مؤسسة تنمية سيناء محمد شوقي رشوان للصحافيين إن (مشروع سيناء كوطن بديل للفلسطينيين يمكن أن يتحقق إذا لم نمضِ قدماً في تنمية المنطقة). بينما صرّح عادل سليمان، مدير المركز الدولي للدراسات الاستشرافية والاستراتيجية)، بأن (مشروع الوطن البديل يشجعنا على مراجعة خطة التنمية طويلة المدى لسيناء واختيار خطة عاجلة تهدف إلى تطوير الطرق المؤدية إلى سيناء، وتسهيل انتقال سكانها إلى مناطق مصر الأخرى).
القيادة المصرية ترفض بحزم فكرة التوطين في سيناء
تباينت مواقف المحللين الغربيين إزاء مشروع توطين قسم من سكان قطاع غزة في سيناء، عقب إعادة طرحه في هذه الأيام، إذ رأى بعضهم أن هناك أسباباً تشجع مصر على قبول هذا المشروع، الذي قد يعني (زيادة المساعدات العسكرية الأمريكية والدعم الغربي إليها، والتمويل من وكالات الأمم المتحدة)، بينما قدّر آخرون أن الثمن الذي ستدفعه مصر، مقابل قبولها هذا المشروع، سيكون: (سمعة مصر في العالم العربي والإسلامي)، فضلاً عن (التحدي من الشارع المصري)، فضلاً عن أن مصر (دولة مكتظة بالسكان واقتصادها هش، وهي لا تريد، في الواقع، أن ترى كتلة جديدة من الفقراء تدخل أراضيها). وإذ عبّر سكان قطاع غزة، على الرغم من معاناتهم الشديدة بسبب العدوان الإسرائيلي المستمر، عن تخوفهم من أن تلحق بهم نكبة جديدة في حال نجاح ترحيلهم إلى سيناء، فإن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كان حازماً عندما دعاهم إلى البقاء على أراضيهم، وأعلن، يوم الخميس في 12 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، أن سكان غزة يجب أن يظلوا (حاضرين في أراضيهم)، معرباً عن مخاوف مصر من سعي إسرائيل إلى (إفراغ غزة) من سكانها. وخلال استقباله المستشار الألماني أولاف شولتس في القاهرة، ألقى الرئيس المصري، يوم أمس في الـ18 من الشهر الجاري، خطابه (الأكثر شمولاً وعنفاً) حول هذه القضية، إذ قدّر أن دفع الفلسطينيين إلى مغادرة أراضيهم هو (طريقة لإنهاء القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار)، وقال: (إن فكرة إجبار سكان غزة على الانتقال إلى مصر ستؤدي إلى تهجير مماثل للفلسطينيين من الضفة الغربية، الأراضي التي تحتلها إسرائيل، وهذا سيجعل إقامة دولة فلسطين مستحيلاً.. ومن شأنه أن يجر مصر إلى حرب مع إسرائيل)، فضلاً عن أنه (من خلال نقل الفلسطينيين إلى سيناء، فإننا ننقل المقاومة والقتال إلى مصر، وإذا انطلقت هجمات من أراضيها، فعندئذٍ سيكون لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها) … (وستضرب الأراضي المصرية)، وخلص إلى أن السلام الموقع بين إسرائيل ومصر سنة 1979 (سوف يذوب بين أيدينا)، وإلى أنه (إذا كانت الفكرة هي التهجير القسري، فهناك النقب… ويمكن لإسرائيل بعد ذلك إعادتهم (إلى غزة) إذا أرادت ذلك). ومن جهته، حذر العاهل الأردني عبد الله الثاني، يوم الجمعة في 13 الشهر الجاري، من (أي محاولة لتهجير الفلسطينيين من كافة الأراضي الفلسطينية أو التحريض على تهجيرهم)، مضيفاً أنه (يجب ألا تمتد الأزمة إلى الدول المجاورة وتؤدي إلى تفاقم قضية اللاجئين). وعاد وأعلن أن إجلاء سكان غزة: (هو أمر غير مقبول وسيدفع المنطقة نحو كارثة أخرى ودورة جديدة من العنف والدمار)، مؤكداً أنه (لن يكون هناك لاجئون في الأردن ولا لاجئون في مصر)، وأن من الضروري معالجة (الوضع الإنساني في غزة والضفة الغربية). كما حذر الرئيس الفلسطيني محمود عباس وزير الخارجية الأمريكي، الذي التقاه في عمان، من أن تهجير وطرد المزيد من الفلسطينيين من غزة (سيكون بمثابة نكبة ثانية).