العرب ما بين القلق والإعراب!!
د. نهلة الخطيب:
لم تعد القضية الفلسطينية أولوية الشعوب العربية منذ انتفاضات الربيع العربي وما نتج عنها من توترات في معظم الدول العربية، الانقسام الفلسطيني الداخلي بعد اتفاقيات أوسلو في التسعينيات التي سحبت الخيار العسكري وربطت إقامة دولة فلسطين بالمفاوضات، وهذا ما جعل إقامة الدولة رهناً بموافقة إسرائيل، وإسرائيل لا تريد هذه الدولة لأن إقامة دولة فلسطينية يشكل النقيض التاريخي للحركة الصهيونية، وبالتالي تغيير جوهري من طبيعة إسرائيل وأهدافها، والأخطاء التي ارتُكبت في اتفاق أوسلو والاعتراف بحق إسرائيل بالوجود وإقامة دولتها والتنسيق الأمني الذي جعل الفلسطيني ينهي مقاومته قبل نهاية الصراع وتحصيل حقوقه حتى بالحد الأدنى، كانوا يتصورون أنهم يستطيعون تهميش القضية الفلسطينية بإجراء عمليات التطبيع بشكل كامل وآخرها مع السعودية، ولكنهم تفاجؤوا بطوفان الأقصى، وبموقف عربي رسمي جامع وإن كان ظاهرياً، لأنهم لا يستطيعون تجاهل موقف شعوبهم التي تدرك أن المسؤولية الكاملة عن المصير المرير الذي قاساه الشعب الفلسطيني قبل حرب 1948 وفي أثنائها وبعدها تقع على عاتق الدول العربية، وخاصة بعد أن انخفض السقف العربي والدولي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وشروط حلّها، يقول إدوارد سعيد: (كنا معروفين بكل بساطة بصفتنا اللاجئين العرب الذين هربوا لأن زعمائهم طلبوا منهم أن يهربوا).
ما يقارب 300 مليون عربي وصرخات 2,5 مليون غزاوي تقتلهم الطائرات الصهيونية على مرأى ومسمع من الجميع، وبين غزة وما تبقى من جيوش العرب التي تدك أراضي أبنائها وتذبحهم بدم بارد واقعٌ عربي مذلّ ينتظر مولوداً ربما قمة من القمم المزعومة لإحلال السلام، هذا المولود قد يموت حنقاً بالممارسات الإسرائيلية، أو يموت بفعل العجز والإهمال وخيبة الأمل من الحكام العرب، فليس من الحكمة عندما يواصل عدوك عدوانه الهمجي عليك أن تواصل أنت الحديث عن السلام. وتزاحمت اللقاءات والقمم والأحداث والضحية واحدة هي فلسطين، هو الشعب الفلسطيني في الداخل أو في الشتات واللجوء، بدأت اللقاءات بالقمة الرباعية في الأردن لجمع جو بايدن وعبد الفتاح السيسي والملك عبدالله ومحمود عباس، وقد باءت بالفشل بعد قصف مشفى المعمداني الذي راح ضحيته ما يقارب 500 شهيد، إذ كان معيباً أن يلتقيه العرب ومُحرجاً لهم أمام الرأي العام العربي، فانسحب عباس ثم قرّر الملك الأردني والرئيس المصري أن لا حاجة لهذه القمة، بعد أن حمّل بايدن المقاومين الفلسطينيين مسؤولية هذه المجزرة، ولم تحقق زيارة بايدن للمنطقة أهدافها المعلنة بلقاءات رؤساء دول الطوق، وحقق في إسرائيل إنجازات كبيرة وما ينبغي فعله وكأنه صهيوني ومن أشد الصهاينة تطرفاً، وهذا ما أكده في الحرب الدائرة حالياً في غزة، فإسرائيل ولاية أمريكية وهو من يشرف على سير العمليات الإسرائيلية شخصياً فربما هكذا يكون الحلفاء؟!!
بعد فشل القمة الرباعية في الأردن وربما لملء الفراغ، أطلق الرئيس المصري قمة دولية وإقليمية لمناقشة المستجدات التي يشهدها قطاع غزة وتطورات ومستقبل القضية الفلسطينية، متزامنة مع تعرض قطاع غزة لغارات بوتيرة عالية جداً، فإسرائيل لا تعنيها العرب وقممهم، وعقدت بحضور 31 دولة وغياب الولايات المتحدة الأمريكية، طالب المجتمعون بوقف فوري لإطلاق النار وحماية المدنيين، وتباينت مواقف الدول المشاركة معبرة عن الانقسام في المجتمع الدولي حول المفاهيم والمواقف السياسية من أطراف النزاع والحرب الدائرة بغزة، فبعض الدول الأوربية (فرنسا وألمانيا وبريطانيا). ترى أن أمن إسرائيل أمر غير قابل للتفاوض، وأن لها حقَّ الدفاع عن النفس متجاهلين الانتهاكات التي ترتكبها بحقّ الشعب الفلسطيني، وآخرون (الدول العربية) استنكروا العنف ضد المدنيين في غزة وتجويعهم وقطع الكهرباء والماء عنهم إضافة إلى تهجيرهم، مع الإشارة الى المعايير المزدوجة التي تتبعها أوربا.
وكانت هناك ضرورات مصرية وإقليمية لعقد هذه القمة في عجالة، في مواجهة قمة السعودية التي خرجت بالمخرجات نفسها، فلم يُحضّر لها بدقة وخاصة تحديد الأهداف، رفض التهجير القسري للفلسطينيين وتصفية القضية على حساب مصر، هذا ما كان يهدف السيسي إلى إيصاله، إضافة الى الإعراب عن دهشته البالغة من صمت عالمي وغياب القانون الدولي الإنساني إزاء أزمة انسانية بالغة يتعرض لها 2,5 مليون فلسطيني يفرض عليهم عقاب جماعي وحصار وتجويع وضغوط عنيفة للتهجير القسري، وأعلن السيسي في الكلمة الافتتاحية عن صياغة خارطة طريق وعدد بنودها وتهدف إلى إنهاء مأساة المدنيين، وإيصال المساعدات بطريقة آمنة وعاجلة، ثم التفاوض للتهدئة ووقف إطلاق النار، وأخيراً الانتقال الى مفاوضات لإحياء عملية السلام وصولاً إلى حل الدولتين على أساس مقررات الشرعية الدولية، دون مراعاة التباينات التي يمكن أن يواجهها من حلفاء إسرائيل، فكان هذا يتطلب مشاورات وتمرير هذه الورقة على الوفود المشاركة ومعرفة رأيها وصياغتها بإعلان مشترك متفق عليه. ولم تنتهِ قمة القاهرة ببيان ختامي توافقي وانما بيان صحفي من الرئاسة المصرية تؤكد أن هدف القمة بناء إجماع دولي لنبذ العنف ووقف الحرب ونداء سلام يطلقه المشاركون.
فالمراهنة على وجود إجماع على قرار دولي ربما يكون أمراً صعباً للغاية، وخاصة بعد الحرب الأوكرانية التي أدت الى استقطاب عالمي، ولكن ربما يكون هناك حد أدنى للاتفاق حول مسألة المساس بالمدنيين، وهو أمر غير مقبول، فالأمم المتحدة تتحدث الآن من خلال لجنة حقوق الإنسان عن عملية تطهير عرقي وقتل جماعي ونظام عنصري، فالموضوع ليس مرتبطاً بتمرير مؤونة وماء وكهرباء، ولكن بالصورة الأشمل هدنة إنسانية ورفض ممارسات الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية حقّ طبيعي وقانوني وتاريخي للشعب الفلسطيني وغير مرتبط بالمفاوضات وما يسمّى بعملية السلام. فالقضية الفلسطينية أمست حاضرة عند الشعوب العربية وحتى عند الحكام العرب وأصبحوا_ شاؤوا أم أبوْا_ كأمة عربية بمواجهة تحالف غربي أمريكي داعم لإسرائيل، ولكن العالم بوضع مختلف عما سبق، فالولايات المتحدة الأمريكية إذا لم تتدخل باستئناف عملية السلام فسوف تتضرر مصالحها الاستراتيجية في الإقليم، وهي تدرك ذلك وخاصة أنها وحلفاءها يحتاجون إلى الطاقة والنفط والموقف العربي لمواجهة الأقطاب الصاعدة، والعرب يشعرون أنهم يملكون أوراق قوة، وبالتالي يستطيعون أن يتفاوضوا من موقع جيد إن شاؤوا.
وقد كُتب على الفلسطينيين وحدهم مواجهة إسرائيل في لحظة تاريخية في زمن السقوط، سقوط العالم المتحضر وغير المتحضر على السواء، خيام متناثرة تعيد إلى ذاكرتهم فصلاً كان قد مر به أجدادهم قبل 75 عاماً واليوم حان دورهم ليعيشوا مرارته في واقعهم بمكان مزدحم بمن تقطعت بهم السبل ناجين من تحت الركام أو فارّين من الغارات، مكان لا تتوفر فيه أدنى مقومات العيش، ظروف لا تمتّ إلى الإنسانية بصلة، بانتظار شجب العرب وتنديدهم وإعرابهم.. يا لَضعفنا!!