اللاعنف وواقع الشعوب

وعد حسون نصر:

من المعروف أن الثاني من شهر تشرين الأول من كل عام هو اليوم العالمي للاعنف، وقد خُصِّصَ ليوافق يوم ميلاد المهاتما غاندي الذي يُعتبر زعيم حركة الاستقلال الهندية ورائد فلسفة واستراتيجية اللاعنف، وقد عُبِّرَ عن اللاعنف، بشيء مقتبسٍ من أقوال (المهاتما غاندي): (إن اللاعنف هو أقوى قوة في متناول البشرية، يبعد عن سلاح من أسلحة الدمار تم التوصل إليه من خلال إبداع الإنسان).

كذلك اللاعنف في مفهوم غاندي هو ممارسة شخصية لا يؤذي الفرد فيها ذاته، ولا الآخرين تحت أي ظرف، وينبع ذلك من الاعتقاد بأن إيذاء الناس أو الحيوانات أو البيئة لا لزوم له لتحقيق النتيجة المرغوبة، كذلك يشير إلى فلسفة عامة تقوم على الامتناع عن العنف على أساس المبادئ الأخلاقية والدينية والروحية، ويعتبر اللاعنف مفهوماً مركزياً في فلسفة جماعة السلام الأخضر، وهو مذكور في ميثاق السلام الأخضر العالمي، إذ يؤمن الخضر بأن على المجتمعات أن تنبذ النماذج الحالية من العنف وأن تعتنق العمل اللاعنفي، من هنا نجد أن  فلسفة الخضر تستند كثيراً على أفكار غاندي وتقاليده.

لكن السؤال هنا: أين الشعوب من هذه الفلسفة ومن اللاعنف؟ فما يجري من أحداث حول العالم يُشير إلى أننا نقبع في عمق سياسة العنف، والتجويع، والتشرد، والقتل واستخدام كل وسائل التعذيب على الجنس البشري، وخاصة في الشرق الأوسط وضمن ما يُسمّى شعوب العالم الثالث. فإذا نظرنا إلى ىسياسة فرض العقوبات على الدول ومنع إدخال المساعدات الإنسانية نجد هنا أن هذا شكل من أشكال العنف الهادف لتجويع الشعوب وقهرها تحت بند العقوبات. كذلك فإن افتعال بعض الكوارث يُعتبر شكلاً للعنف وتدمير البنية التحية لبلدان تريد أن تحيا في سلام، لكنها بفعل هذا تعيش حالة التشرّد بحثاً عن النجاة. أيضاً على الصعيد الداخلي لأيِّ مجتمع، نرى أن لغة التعامل بين أفراده داخل الأسرة تقوم على تعنيف الآباء للأبناء، الأزواج للزوجات، مثلما تقوم على القمع باللفظ أو الضرب أو حتى الحرمان!

فأين اللاعنف هنا؟ أين سلام الحوار وعدم ممارسة الأذى على أبنائنا!؟ حتى داخل المدارس وبين التلاميذ أنفسهم نجد ألعابهم ألعاب قتال وألفاظهم تنمُّ عن العنف الناجم عن تعامل بعض المُدرّسين مع التلاميذ القائم في كثير من الأحيان على التعنيف الجسدي واللفظي والإهانات. وفيما يخصُّ علاقاتنا الاجتماعية ونظرتنا بعضنا إلى البعض الآخر فهي أيضاً محكومة بعنف داخلي ولغة تفوح منها رائحة العنصرية، تحت مُسبّبات كثيرة، فذواتنا المحكومة بعادات وتقاليد بالية ومفروضة علينا جميعاً، جعلت حلولنا للأمور بعيدة عن مُسمّى السلمية سواء في حلِّ النزاعات بيننا أو في تقبّل أي رأي ونقاش، والنظرة الذكورية إلى المرأة في مجتمعنا على أنها شخص ينقصه حماية ويحتاج إلى مَحرَم وموافقة للعمل وللسفر وحتى للتعليم، فهي كائن محكوم من قبل الرجل (الأب أو الأخ  أو الزوج أو حتى الابن) بتعامل يعتبر أكبر شكل من أشكال ممارسة العنف على المرأة، إذ يعتبر نفسه  قوّاماً عليها، حتى شهادتها في المحكمة تُعتبر ناقصة فشهادة كل سيدتين بمثابة شهادة رجل واحد أمام المحكمة، أليس هذا عنفاً مُمارساً على شخصية المرأة؟

وفي العمل الوظيفي نرى ممارسات لا تُحصى من العنف بين الموظفين أنفسهم بعضهم البعض، كذلك من قبل رؤساء العمل نحو الموظفين وأشكال كثيرة من الاستغلال وخاصةً في ظلِّ هذه الظروف، فكم من عامل يمضي نهاره في بذل جهد جسدي مقابل أجر مادي بخس بسبب استغلال رب العمل حاجة هذا العامل للمادة! حتى بالحوار بيننا وبين الآخر لا يوجد حوار حضاري أو احترام لرأي الآخر، فالجميع يريد أن يفرض رأيه بالقوة، ومن هنا لا يمكن أن نقول إننا تخلّصنا من العنف داخل أنفسنا قبل المجتمع وارتقينا إلى مرحلة اللاعنف في التعامل بيننا وبين الآخر، فلكي نصل إلى السمو في المجتمع ونحصل على وسام اللاعنف، علينا تعزيز ثقافة الحوار بيننا، ثقافة التواصل وهذا الشيء لا يمكن أن يأتي بالفطرة، فلا بدَّ من تعزيز نشاط المنظمات التي تُعنى بحقوق الإنسان، وإقامة ندوات وجلسات التوعية بين النساء لتعريفهن بحقوقهن ومساندتهن ليكنّ سند أنفسهن وقويات في فرض ذواتهن بالحق والرقي في الحوار حتى يكنّ صاحبات شأن في هذا المجتمع ، وخاصة على مستوى الأرياف التي مازالت تنظر إلى المرأة على أنها ضلع قاصر. أيضاً نشر الوعي بين طلاب المدارس ومنع التنمّر ومنع استخدام القوة في تعاملهم فيما بينهم وحثّهم على ترسيخ لغة الحوار مع زملائهم، ومع المعلمين أنفسهم وبينهم وبين طلابهم. وخلق روح المشاركة والتعاون داخل العمل الوظيفي والمؤسساتي، لخلق الحوار بين زملاء العمل وبينهم وبين الرؤساء، وجعل المنافسة الشريفة سبيلاً للإنتاج الفكري والاقتصادي بينهم، فلكي نُحقّق هذا السلام سواء داخل ذواتنا أو بيننا كمجتمع يحيا حياة تشاركية علينا جميعاً وخاصةً بعد أزمتنا التي أفرزت شتّى أنواع العنف وألصقته بنا، علينا فعلاً أن نعوّد أنفسنا على الحوار الايجابي مع أنفسنا أولاً لننتقل منها للآخرين، وتقبل اختلاف الآخر ورأيه، وحلِّ خلافاتنا يجب أن يقوم على الحوار لا النزاع، وأن نعلّم أبناءنا أن الآخر لا يختلف عنّا إلاَّ بطيب أخلاقه وحُسن سلوكه، أن نعلمهم ألاَّ يؤذوا الضعيف إنساناً كان أم حيواناً أم نباتاً. ولكي ينهض المجتمع علينا أن نُشذّب سلوك صغاره ونزرع فيهم القيم والمحبة وبذور السلام، فهم ذوو عقول وأرواح تشبه الصفحة البيضاء فكما نكتب عليها نقرأ، لذا علينا أن نكتب كل جميل ونكتب السلام والأمان فقط على هذه الصفحة، لأنه لا يوجد أجمل من السلام، فلا للعنف، ونعم للسلام، نعم للحوار لراحة المجتمع المتكافئ بالحب، القائم على الأمن والأمان، نعم للّاعنف.

العدد 1105 - 01/5/2024