رؤية حمويّة في رواية (جورة حوّا)

فادي إلياس نصار:

في روايتها الشيّقة (جورة حوّا)، نجحت  الأدبية الحموية منهل السراج  في الدخول إلى عالم العشاق وهموم الفقراء وأفراح المترفين، والتجوال بالقارئ بين العائلات الحموية، وجابت في بيت الفنانين مرةً برفقة (كوثر) الفقيرة المُتدينة، التي تبقى على مدار زمن الرواية صائمة،  ومرة  أخرى مع (مي)، الفتاة التي أرادت العيش على سجيتها في مدينة تتميز بانغلاقها تجاه تحرر المرأة، ومرة مع (خالد)، الفقير المُعدم الذي يُحدّث بناته عندما كُن يطلبن طلاء أظافر وأقراط بأن ليس أجمل من أصابع الفتاة نظيفة، ولا هناك أبهى من وجه امرأة من دون حلى وإكسسوارات، و(ريمة) الصديقة الثالثة الصدوق لكوثر.

(مي) مهندسة معمارية، تزوجت من رجل غني يؤمّن لها كل شيء، مقابل أن تترك العمل وتركن لتربية الأولاد، فتغرق في ثرثرات النسوة من المجتمع المخملي، الأمر الذي أودى بحياتها الزوجية في النهاية، إلى الخراب.

نجحت الكاتبة وهي ابنة عائلة حموية سواقية عريقة (تقسم مدينة حماة إلى سوق وحاضر، وأهل السوق يدعون سواقية، فيما يدعى أهل الحاضر حواضرية)، في التصوير الدقيق لكل تفاصيل الشوارع والحارات وأبواب المباني والأزقة القديمة المرصوفة بالحجارة وأقواس النواعير، وتصوير الحياة الحموية حيث يمتلئ قلبك بالفرح عندما تتكلم منهل عن الفرح، وبالحزن والجزع عندما تتحدث عن آلام أمية، لفقدانها زوجها وأبنائها الثمانية في (أحداث الإخوان)،  وتشعر بأنك تجول مع الكاتبة في حارة (جورة حوا) الواقعة بين شارع 8 آذار وحي سوق الشجرة.

أسلوبها شيّق، وأكثر من ذلك مليء بالصدق والحيوية، فهي تكتب عن كل الأشياء التي نعيشها في مدننا السورية إجمالاً، تتحدث عن عادات الناس، وعن أمور تكون فيها جريئة جداً أكثر مما هي عليه في المنطق، بوصفها لتدويرة الأثداء والخلفيات لدى بطلات روايتها، وعن الألبسة الداخلية، وتفنُّن النساء الحمويات بإثارة غريزة أزواجهن في الليلة الأولى للزواج، كما عن الجهل في الحياة الجنسية لدى طيف واسع من فتيات المدينة، وتلك نتيجة حتمية للخجل والخوف ولغة التواصل المدمرة بين الفتاة وأهلها.

وهذا ما نجحت في رسمه عبر كوثر، الفتاة الطاهرة التي تعرضت لحادثة اعتبرتها نقطة تحول كبيرة في حياتها، فقد صادف أن جلس إلى جانبها شاب في باص النقل الداخلي وألصق فخذه بفخذها، فكادت تموت من ذلك الشعور الغريب أسفل البطن فشعرت بعد ذلك بالذنب.

بطلات الرواية فنانتان تشكيليتان (كوثر ومي) ومهندسة عمارة (ريمة) ولكن أكثرهن جمالاً ونجاحاً كانت (مي) بعينيها الخضراويين وجسمها المثير وشعرها الكستنائي، الذي جعل منها فاكهة شهية لدى أهل السوق من الرجال، وحديثاً مثيراً لدى نساء المدينة، وخاصة بعد أن تعرّت مرّةً في بيت الفنانين ورسمت ورقصت على أنغام ياني، الشيء الذي سبب لها فضيحة كبيرة ودفعها للسفر إلى السعودية لتتزوج رغماً عنها دون أن تعرف الحب ، تزوجت رجلاً لم تحبّه وأدّت فروض العمرة معه، ولكن شعرت مرة أن عشقها الأزلي المتجسد في الألوان والرسوم قد هجرها، فتصاب بالخيبة وتقع بعد ذلك مصادفة في حب شخص تقابله أثناء أداء فروض العمرة، فتعود الحياة إلى قلبها، وتتملكها رغبة بتلوين كل ما هو أبيض وأسود ابتداء من الكعبة وأرض السعودية وعباءات الرجال و النساء، فكل شيء في السعودية كان أبيض أو أسود لا ثالث لهما.

في نهاية الرواية تطلّق مي زوجها، وكذلك تفعل ريمة، وتعودان إلى البيئة المنبت (جورة حوا)، حيث الطبقة الوسطى بألوانها الواقعية لتتلذّذا بطعم العمل والتعب.

تمتلئ الرواية بكلام عن التزمت الديني والعادات والتقاليد الحموية الخاصة جداً.

الشيء الأول في الرواية وأكثر ما يجذبك هو الصدق في التعبير وتجاوز كل الخطوط الحمر في حديثها عن الجنس، الفقر، الإمتاع، الشهوة، السياسة، القهر، الحب، الحلال والحرام، الدين، الفوارق الطبقية، وأمور حياتية أخرى ترسمها ضمن لوحة تشكيلية متناسقة الألوان والمساحات.

في دعوة صريحة منها تعمل (منهل السراج) في روايتها على بث روح الثورة على كل ما هو ضد المرأة أو ضد الحرية الشخصية، في مجتمع يئن تحت نير الخطوط الحمر والعادات والتقاليد البالية.

الأمر الثاني الذي أود الاعتراف به أنني في منتصف الرواية قررت أن أذهب إلى بيت الفنانين للسؤال عن (مي) لأن تأثير الأسلوب وروعة السرد، أودت بالعقل الباطن وجرته للاعتقاد بأن الأحداث جرت بالفعل في حارات حماة.

(منهل السراج) تستحق عن جدارة لقب فنانة الحياة الحموية، وسيدة الكلمة النسوية الجريئة، فهي تجعل من الكلمة منارة في ظلمة هذا العالم المختل.

العدد 1105 - 01/5/2024