توهّم الاستقلال

أحمد ديركي:

يُحكى الكثير والكثير عن استقلال البلاد، فالاستقلال أمر لا بد منه لنشوء أي بلد في العالم ليكون حراً وسيداً لقراره أو قراراته. وإلا كان مستعمَراً، لا قرار له إلا بما يأمره المستعمِر بفعله، والاستعمار نقيض الاستقلال.

وأتت القوانين الدولية للحفاظ على استقلال البلاد، كما أتت الإيديولوجيات الوطنية تستند على مفهوم الاستقلال ليكون ركناً أساسياً في بناء مفهوم الوطنية، التي يشتق منها وطن ومواطن وألف تعبير آخر.

لذا يُعتبر الاستقلال المتضمن للعديد من المفاهيم الأخرى، ومنها السيادة الوطنية، أمراً أساسياً في بناء الوطن. أي بعبارة أخرى لا استقلال= لا وطن.

لكن للاستقلال أبعد من أن يحدد هنا بمقال، وهناك مفاهيم كثيرة، وبخاصة في عالم العلوم السياسية، يدخل مفهوم الاستقلال في صلبها. من هذه المفاهيم، على سبيل المثال لا الحصر، مفهوم السيادة. فالسيادة تتضمن سيطرة الدولة بشكل كامل على كل أراضيها بحدودها السياسية المعترف بها في الأمم المتحدة. وإن كان هناك مستعمِرٌ احتلّ جزءاً من هذه الأرض، حتى لو كانت سنتيمترات مربعة لا كيلومترات مربعة، فهذا يعني فقدان الدولة جزءاً من (سيادتها) على أرضها بحدودها السياسية، ويحق لها وفقاً للقوانين الدولية أن تدافع عن هذه السنتيمترات المربعة القليلة وأن تشنّ حروباً، إن فشلت المفاوضات السلمية، حتى تستعيد هذه السنتيمترات لاستكمال سيادتها، وبهذا تستكمل استقلالها. وما أكثر الأمثلة حول النزاعات الحدودية في العالم، وبخاصة بين دول العالم الثالث. وهي واضحة وجلية في عالمنا العربي بوجود الكيان الصهيوني واحتلاله كامل أراضي فلسطين وأجزاء من الدول العربية المحيطة بهذا الكيان الاحتلالي.

هذا مثال واضح، لكن هناك استقلال (ناقص) غير مرئي يصيب العالم برمّته منذ فترة، ولم نجد من دخل في أعماق هذا الاستعمار الاحتلالي. إنه الاستعمار الاقتصادي!

نعم، العالم يعيش تحت ظل النظام الرأسمالي، بكل أشكاله، من الأكثر تطوراً إلى الأقل تطوراً. فهذه حقيقة لا يمكن نكرانها أينما توجهنا، لكن هذا النظام بذاته يعبّر بطريقة غير مباشرة عن استعمار اقتصادي، وقد أصبح حالياً يعبّر عن استعماره للدول، المقصود دول العالم الثالث بخاصة، بطريقة وقحة. والأمر الغريب أنه لا يوجد من يقاومه، رغم أنه يُفقِد الدول استقلالها.

يتمثل هذا الاستعمار غير المرئي بالعملة الحاكمة للعالم، أي بالدولار الأمريكي. توضيحاً لهذه المسألة الاستعمارية الخفية المفقدة الدول استقلاليتها، ما يحدث في لبنان والدول المشابهة له إلى حدٍّ ما.

لكل دولة عملتها (الوطنية) المرتبط سعر صرفها بقوانين اقتصادية محددة، جزء من هذه القوانين عالميّ وجزء منها محلّيّ. طبعاً سعر الصرف بالنسبة للدولار أعقد من هذا وله تفرعات متعددة. فتعمل الدول على ضبط الأسعار في أسواقها والتعامل النقدي بالعملة الوطنية، أما تعاملاتها الخارجية فتكون بالدولار لأنه العملة العالمية للتجارة. فيصبح تداول العملة الوطنية داخل البلد هو أحد الأسس في مفهوم الاستقلال. فإن لم تكن العملة الوطنية أحد الأسس في مفهوم الاستقلال، فما من حاجة لها وليكن التعامل محلياً بالدولار!

عند حدوث اختلال في سعر الصرف تتدخل الدولة، على الصعيد الداخلي، لتوازن الأمر محلياً، من رفع الحد الأدنى للأجور إلى فرض ضرائب على الاستيراد أو أي شأن آخر يوازن إلى حد ما الخلل الذي حدث. لكن هناك من يتهرب من هذا الأمر، فيفرض التعامل مع الخلل في سعر الصرف ويترك السوق المحلي خاضعاً لهذا الخلل فارضاً التعامل بالعملة المحلية، فكل يوم يستقيظ المواطن على أسعار جديدة بسبب ارتفاع سعر الدولار، من دون أي تدخل من قبل الدولة لضبط هذا الخلل.

أي أن هذه الدولة فقدت جزءاً من سيادتها، لأن السيادة الاقتصادية جزء من السيادة السياسية، والسيادة الاقتصادية مثلها مثل السيادة على كل الحدود السياسية للدولة.

وهناك دول، وتحديداً، لبنان، الذي ينص دستوره على أنه (نظام ليبرالي)، ولا علاقة لليبرالية به، فقد شرع قانونياً التعامل والتسعير بالدولار! فيدخل المواطن لشراء أي سلعة، حتى لو كانت ربطة خبز، فيجد سعرها بالدولار! وله حرية الاختيار بالدفع بالدولار أو بالعملة (الوطنية)! والسخرية هنا أن الأجور تُدفع بالعملة (الوطنية) والرسوم الحكومية بالعملة (الوطنية)، بينما تصحيح الأجور لا يقترب من مستويات تصحيح الخلل بسعر الصرف!

أي أن لبنان أصبح علناً يفقد جزأين أساسيين من مفهوم الاستقلال، فجزء من أرضه ما زال محتلاً من قبل الكيان الصهيوني، وكل اقتصاده محتلّ من قبل الدولار. فعن أي استقلال نتحدث؟

إنه التوهم بوجود استقلال، والتغنّي بالوهم أكثر خطراً من وعي الاستقلال لأنه يمثل تشويهاً للوعي، ويعمل وكأنه الوعي الصحيح لمفهوم الاستقلال. فمن خلال توهّم الاستقلال يصبح الاستعمار أمكر توغلاً وأكثر قبولاً، فيتحول الاستعمار الواقع من استعمار إلى استقلال متوهّم من خلال هذه العملية التوهّمية.

العدد 1104 - 24/4/2024