السلام الذي يتلوّن كالحرباء بلون البيئة والظروف

يونس صالح:

يعرّف القانون الدولي السلام بأنه حالة الدولة عندما لا تكون في حرب مع دولة أخرى، والسلام الدائم المطلق ليس له وجود، فالحروب لازمت تاريخ المجتمعات البشرية منذ تكوّنها، وتظل قائمة مهما تقدمت الحضارة أو ارتفع مستوى الثقافة، مادامت أسبابها قائمة، منذ أن انقسمت المجتمعات إلى فقراء وأغنياء، إلى مالكين لكل شيء ومعدمين.

كان القرن الماضي من أكثر القرون دموية، رغم أنه كان أكثر من القرون تقدماً، ولقد شهد مقتل أكثر من مئة وعشرين مليوناً من البشر في مئة وثلاثين حرباً، وهو عدد يزيد على عدد جميع من قتلوا في جميع الحروب التي شهدها التاريخ البشري قبل القرن العشرين. أما بداية القرن الحادي والعشرين فهي لا تبشر بالخير أيضاً، فضحايا الحروب التي جرت في الربع الأول من هذا القرن لا تعدّ ولا تحصى.

إن الحديث عن التقدم والرفاهية والسلام كان له دعاة في القرن السابق وبداية هذا القرن، توقعوا أن يؤدي ما يتحقق من اكتشافات علمية وابتكارات واختراعات تكنولوجية إلى نجاة المجتمعات البشرية من شرور الحروب، ليتمتع الإنسان بالسلام على الأرض، لكن الحروب فرضت نفسها، واستفادت من التقدم العلمي والتكنولوجي كما استفاد السلام سواء بسواء.

ويتحدث الأدب السياسي حالياً عن السلام، وعن الصعوبات التي تواجهه وعن (تعريف السلام) أو (البحث) عن السلام، أو (حفظ السلام)، لأن السلام مثل الحرباء، كان يتلون بلون البيئة والظروف التي تحيط بالباحثين عنه. فالسلام بالنسبة لبعض الدول غير السلام بالنسبة لدول أخرى، والجنود الذين يحاربون في مجتمع يدّعي الديمقراطي غيرهم في مجتمع آخر.. وإنه لأمر يدعو إلى السخرية حقاً أن نرى الجهود التي يبذلها المجتمع البشري من أجل الوصول إلى السلام.. وهي تتحول إلى عمليات حربية وعدوان تراق فيه الدماء، وتبدّد الثروات باسم السلام: هناك محاولات لربط السلام بالمواثيق والمعاهدات، ولقد فشلت كل هذه المحاولات، فلم يعد يثق بها أحد.. ولقد أثبتت التجارب التاريخية أن الدولة التي تشعر بأن ميزان القوى في صالحها بالنسبة لجيرانها يستولي عليها إغراء بأن تستخدم قواها المتفوقة في الهجوم على جيرانها.

وإذا تأملنا واقع المجتمعات البشرية اليوم، فسوف نجد أنها ليست في حالة سلام، بل في الحالة التي يحددها القانون الدولي بالحياد. وتعريف الحياد في القانون الدولي هو الامتناع اختيارياً عن الاشتراك في حرب قائمة، وهناك أنواع متعددة للحياد منها الحياد التقليدي مثل الحياد السويسري، الذي يعني السلام بالنسبة لها هو الابتعاد عن الخطر والنجاة من الأذى. والحياد التقليدي له شروطه وأهمها الامتناع عن مساعدة الدول المتحاربة وعدم استخدام أراضيها من قبل هذه الدول للقيام بأعمال بعضها ضد البعض الآخر.

وإلى جانب الحياد التقليدي ظهر في النصف الثاني من القرن العشرين عندما نشبت الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والدول الغربية، مبدأ الحياد الإيجابي، باعتباره الوسيلة المثلى لتحقيق سلام للدول التي لا تشترك في أحد المعسكرين الشرقي والغربي.

لقد بزغت فكرة الحياد الإيجابي في مؤتمر باندونغ عام 1955 الذي جمع دولاً ترفض التبعية لأي معسكر، وقرّرت الامتناع عن الاشتراك في أية تنظيمات أو أحلاف عسكرية.

ولقد زاد الاهتمام بالحياد مع زيادة أخطار الحروب والرعب النووي وأسلحة الدمار الشامل، وهكذا اتسعت الدعوة إلى عدم الانحياز.. لكن إطار عدم الانحياز واجه انقلاباً في النظام العالمي بسقوط الاتحاد السوفييتي، والتحول الشامل في دول شرق أوربا نحو اقتصادات السوق والليبرالية، واتخذ السلام الحرباء لوناً آخر غير واضح المعالم تحت اسم (السلام الأمريكي) على غرار (السلام الروماني) الذي عرفته الإمبراطورية الرومانية عندما سيطرت على العالم حتى سقطت تحت وطأة الغزو الألماني، وذلك باعتبار أن الولايات المتحدة هي القوى العظمى الوحيدة القادرة على التدخل للمحافظة على السلام في مختلف البلدان كما تزعم.

ويبقى الحديث عن السلام، هو حديث عن إجراءات للأمن، وإجراءات لكسب درجة من الثقة بين الدول، وليس غاية بحد ذاته، بل هو وسيلة للوصول إلى درجة من الأمان والاستقرار. أما الحلم بالسلام الذي ينشده الشعراء وتردّده الأغاني في أفراح وأعياد السلام، فهذا يدخل في باب الأحلام والأماني، لأن السلام غير المنقوص لن يتحقق مادام هناك ظلم وقهر في داخل كل مجتمع، وفي العلاقات الدولية، ومادامت العدالة غير متوفرة في واقعنا المؤلم والمتعثر.

العدد 1105 - 01/5/2024