هل يسكر الحيوان؟

عبد الرزاق دحنون:

في أرشيف ملاحظات تشارلز داروين وجدتُ ملاحظة نقلها إليه أحد علماء الحيوان في إفريقيا، فقد شاهد هذا العالِم بعض السكان الأصليين للشمال الشرقي من إفريقيا يصطادون قرود البابون الوحشية بواسطة ترك أوانٍ مكشوفة تحتوي على جعة قوية مصنوعة محلياً، وحين تشربها تلك القرود البرية تسكر، فيسهل عندئذٍ اصطيادها. وبعد حبسها في أقفاص كانت تقوم بتصرفات مضحكة من خلال حركات الجسد والوجه. أما في صباح اليوم التالي من الأسر، فكانت تستيقظ وهي في حالة مزرية من الغضب والكآبة. وعندما قُدّمت لها الجعة من جديد ابتعدت عنها باشمئزاز واستساغت عصير الليمون بدلاً من البيرة. وفي حارتنا في مدينة إدلب في الشمال السوري كان جارنا الحميماتي يُربّي الحمام على سطح بيته، ورأيته مرة يُعطِّش الحمام ثمَّ يسكب لها الماء في الجرن ممزوجاً بخمر قوي نسميه (عرق) يُصنع مقطّراً من العنب واليانسون، فكان الحمام يسكر بهذا المزيج.

 

1

قرود داروين بامتناعها عن تناول البيرة مرة ثانية كانت أكثر حكمةً من البشر الذين يشربون الخمر فيسكرون ويدمنون غياب الذات حتى يصل بهم شوق السكر إلى ظلمات سراديب الإدمان المقيتة. هذه الملاحظة المهمة والذكية تدفعنا لتأكيد فكرة عن عادة السُّكْر تقول إنه اضطراب معقّد ومثير للجدل. أو على حد تعبير الكاتبة والباحثة المصرية الدكتورة هالة أحمد فؤاد: بالسكْر فرّت الذات من مواجهة مسؤوليتها المنوطة بها كذات إنسانية عاقلة مكلَّفة، وأسّست حضورها في عمق الغياب عبر انتهاك معناها الوجودي الأصيل، لتندرج في أوهام الحشد أو القطيع. حقاً إن وعود السكر وعود باهرة، فلذَّة السكر لذَّة آمنة، وفضاءاتها مليئة بالوعود الجميلة غير المكلفة. لكن الاستغراق فيها إلى درجة الاستغناء بها عن اللذَّة الواقعية، إنما هو تعبير عن نزعة عبثية بائسة، وإن كانت لا تعي بأسها وإحباطها.

 

2

فهل يمكن القول إن الاستعداد للإصابة بإدمان السكر يكمن في جيناتنا البشرية؟ بمعنى هل هناك استعداد وراثي عند هذا الشخص أو ذاك يساعد في عملية تزيّن عملية السكر لخلايانا البشرية كي تذهب بحالة السكر إلى شوطها الأخير؟ أم أن البيئة الاجتماعية الحاضنة وجغرافيا السكن عند مختلف الشعوب هي التي تدفع المرء ليألف السكر هذه الألفة الحميمة؟ وأهل روسيا خير مثال على ذلك، فهي آفة اجتماعية عندهم، لبرودة مناخهم وقسوته. وكلنا يعلم موقف أديب روسيا الأعظم ليف تولستوي من السكر، فقد كتب مسرحية شهيرة عنوانها: من صنع الخمر؟ كانت بذور فكرتها منثورة في إحدى قصصه اسمها مكيدة الشيطان.

 

3

هنا حكاية ظريفة رواها لنا إخوان الصفا تقول: ذكروا أن رجلاً من أرباب النعم متديّناً له ابن يجاهر بالسكر، وكان الرجل كارهاً لذلك منه فقال له يوماً: يا بنيّ، انتهِ عن السكر، حتى أعطيك شطراً من مالي وعقاري، وأفرد لك داراً، وأزوجك بحسناء إحدى بنات أرباب النعم.

فقال ابنه:

-يا أبتِ ماذا يكون؟

فقال الأب:

-تعيش فرحاً مسروراً متلذّذاً ما عشت من عمرك.

فقال ابنه:

-إن كان الغرض هو هذا فهو حاصل لي.

فقال له أبوه:

-كيف ذلك؟

قال الابن:

-لأني إذا سكرت وجدت نفسي من الفرح واللذة والسرور حتى أظن معه أن مُلك كسرى كلّه لي، وأتخيل في نفسي من العظمة والجلال حتى أرى العصفور في حجم البعير. فقال له أبوه: ولكن إذا صحوت لا ترى ذلك حقيقة. قال الابن: أعود فأشرب ثانية حتى أسكر فأرى مثل ذلك.

 

4

انظر كيف تمارس الذات سقوطها في غياهب السكر، بل تمارس غيابها بلا توقف مندفعة اندفاعاً عبثياً نحو الهاوية المظلمة، وتعيش غفلتها متلذّذة بالوهم الذي هيمن عليها، فتصبح أسيرة في قبضته، يستلبها كيفما يشاء، وإن بدا أنها تسقط بإرادتها واختيارها. تظهر نماذج واضحة من الوراثة في هذا الشأن أن الجينات قد تنقل بعض الأسس البيولوجية لقدر أكبر من السكر عند بعض الأشخاص. والجينات تملك تأثيراً قوياً في الحالة الفيزيولوجية للفرد بما تظهره من أنماط مختلفة من البروتينات يزيد عددها عن المئة ألف نمط، ولكل منها دور مباشر في الأداء اليومي لوظائف كل من الجسم والدماغ أو في تنظيم فعالية الجينات الأخرى. وقد أوضحت بعض الأبحاث الارتباط القوي بين الاختلافات في الفيزيولوجيا الأساسية من جهة واستعداد الفرد للتعرض لمشكلة السكر من جهة أخرى، وذلك منذ أول جينة تم تعرفها كباعث لخطر الانزلاق نحو عشق السكر والهيام به.

 

5

إن المعيار الذي يستخدم على نطاق واسع في الطب النفسي لتشخيص السكر يتطلب أن يعاني المرء ثلاثة على الأقل من الأعراض التالية خلال الأشهر الاثني عشر التي تسبق التشخيص: تحمّل جرعات كبيرة من الخمور، فقدان المرء الإرادة للسيطرة على الكمية التي يتعاطاها من الخمور، بذل الجهد للتوقف أو الإقلال من تعاطيها. مرور سنين طويلة على ممارسة عادة الشرب الدائم والاستمرار في شرب الخمور على الرغم مما تؤدي إليه من مشكلات مادية ونفسية وصحية وجنسية. إن إدمان السكر يتسم بالتعقيد من الناحية الجينية، فهناك العديد من الجينات التي يغلب أن تسهم فيه، ولابد من دراسة التفاعلات بين بعضها وفيما بينها وبين البيئة قبل تجميع الصورة الكاملة للعملية التي تقود إلى عشق السكر وإدمانه.

 

6

قبل عدة أعوام بدأ الباحثون بدراسة ما يلاحظ على نطاق واسع من ميل لدى الأشخاص من قوميات مختلفة إلى الإصابة بالتورد الناجم عن تدفق الدم عندما يحتسون المشروبات الروحية، وقد أظهر الاختبار الدموي لهؤلاء الأشخاص ازدياد مستوى مادة أستيل الدهيد لديهم. وهذه المادة هي أحد المركبات التي نتجت عن تفكك الكحول في الخمور، وتؤدي إلى إحساس مزعج بحرارة الجلد والخفقان والضعف عند السكر. وقد اقتفى الباحثون هذا التفاعل فوصلوا إلى أحد الإنزيمات التي تسهم في استقلاب الكحول، وهو نازعة هيدروجين الدهيد، ثم في نهاية الأمر إلى الجينة التي تفعّله.

ومع أن الأنزيم يفكّك الأسيل الدهيد، فإن بعض الاختلافات البسيطة في تفعيل (دي أن أي): (الحمض الريبي النووي منزوع الأكسجين

DNA)) لدى هؤلاء الأشخاص تجعل الأنزيم يعمل على نحو أبطأ. وعندما يتناول هؤلاء الأشخاص الخمور يتراكم الأستيل الدهيد في أجسامهم، وقد تكون الجرعات الكبيرة من هذا الأستيل الدهيد سامّة، وبذلك يسقط السكران من ميزان الاتزان ويغيب في عالم ضبابي كثيف. ولهذا كله نقل صاحب أحد المذاهب الأربعة في الإسلام (أبو حنيفة النعمان) علَّة تحريم الخمر من الشرب إلى الإسكار، فأحلَّ الشرب وحرَّم السُّكْر.. فاشرب ولا تسكر_ حماك الله ورعاك!

 

ملحوظة:

كاتب المقال يحمل إجازة في العلوم الطبية_ قسم التخدير والإنعاش، من المعهد الطبي، جامعة حلب السورية، عام 1985.

العدد 1105 - 01/5/2024