روايةُ تولستوي الأخيرة

عبد الرزاق دحنون:

قال أبو طالبٍ شاعرُ داغستان المشهور: إذا أطلقتَ نيرانَ مسدّسكَ على الماضي؛ أطلقَ المستقبلُ نيرانَ مدافعِهِ عليكَ.

روايةٌ قصيرةٌ من رواياتِ أعظمِ الأدباءِ الروس كتب مسوداتها العشر خلالَ السنوات من 1896 إلى 1904، لكنّها لم تنشرْ إلا بعدَ وفاتِهِ سنة 1910. لذلك لا نجدُ نصّاً ناجزاً بيدِ المؤلّف. في هذهِ الروايةِ يمسكُ تولستوي ناصيةَ القولِ الفنيّ المدهش، الذي يُجمعُ على جودتِهِ خلقٌ كثير، وتطربُ لوقعِهِ أفئدةُ الملايين من البشر. يُشرفُ علينا من قمّة التعبير الأدبيّ الساحر، وليس بيننا وبينه سوى مسافة الاستجابة لهذا البيان. والبيانُ والتبيّنُ من السحر الحلال، وعن عبد الله بن عمر، قال: قدم رجلان من المشْرق فخطبا فعجب النَّاسُ لبَيَانِهما، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ من الـبَيَان لسِحْراً، أو قال: إنَّ بعْضَ الـبَيَان لسِحْرٌ). والمرادُ بالبيان هنا اجتماعُ الفَصَاحةِ والبَلَاغةِ وذكاء القلب مع اللِّسان، إنَّما شُبِّهَ بالسِّحْرِ لحِدَّةِ عملِهِ في سامعِه، وسرعة قبول القلب له، يُضْرب في استحسان المنطق، وإيراد الحجَّة البالغة.

كان هُناك جماعةٌ من المريدين يتفاخرون بسيوفهم أيّها أكثرُ صرامةً وحدَّة، وأيّها صُنعت من فولاذٍ ليِّنٍ صلبٍ متين، والآيات القرآنيّة الأجمل التي كتبت على نصل السيوف. وكان (حجّ مراد) نائب الشيخ شامل وبطل رواية تولستوي يستمعُ إليهم، فقال لهم: وعلامَ تتنازعونَ في ظلِّ الأشجارِ الظليلةِ الوارفة؟ غداً تخوضون المعركةَ وعندئذٍ تقرّرُ سيوفكم أيّها أقوى وأشدُّ صرامة.

(حج مراد) من أكابر الزعماء الداغستانيين الذين عملوا تحت أمرة القائد الأسطوريّ الشيخ شامل، وهو القائدُ الميدانيُّ الذي حارب جيوش القيصر الروسي نقولا الأوّل خمسة وعشرين عاماً، وعندما طالت الحربُ وتعب الناسُ جاء بعضُهم إلى الشيخ شامل يحاولُ إقناعه بالاستسلام، فما كان من هذا إلا أن أمر بجلد كلٍّ من يتحدّث عن الاستسلام مئةَ جلدةٍ في الساحة العامة أمامَ الناس. عندئذٍ لجأ طالبو الاستسلام إلى أم شامل، وهم يعرفون مكانتها عند ابنها، لتقنعَهُ بالاستسلام. فقال لها: ألم يبلغك الأمرُ الذي صدر في حقّ من يطلب الاستسلام؟ فأجابته: بلى يا بني، ولكنّي أمّك يا شامل. فرد عليها: أنت داغستانيّة قبل أن تكوني أم الشيخ شامل، ولذا سيسري عليك ما يسري على أهل داغستان. وأمر أن تحمل أمّه إلى الساحة العامة، ويسدل عليها غطاء وتُجلَد.

وقف الناس ذاهلين أمام ما يجري، وبينهم وقف الشيخ شامل أيضاً. ولما جلدها الجلاد ثلاث جلداتٍ قال له الشيخ شامل: حسبُكَ يا هذا، أنا سأتحمل عن أمي السبع والتسعين جلدةً الباقية، وبدأ يتجرّد من ثيابه، وراح مريدوه وقوّاده يحاولون ثنيه عن عزمه، قائلين له: أنت الشيخ شامل زعيم داغستان تُجلد في الساحة العامة أمام الناس؟ بهذه الروح تربّى مريدو الشيخ شامل، ومنهم (حج مراد) الذي تعرّف إليه تولستوي مصادفةً حين كان ضابطاً في القفقاس. وكتب عنه روايةً ساحرةً ما تزال إلى اليوم منسيَّة.

استقى عبقريُّ الأدب الروسي من يومياته المسوّدَة الأولى من رواية (حج مراد) وكان عنوانها (التوت البري) وهذه الشُّجيرة القصيرة تنبت في الأراضي البعليّة (تشربُ من ماء المطر) وهي إلى اليوم تنبت في ضواحي مدينة إدلب في الشمال الغربيّ من سورية، ونسمّيها (سِنْية بريِّة) كُنّا نأكل من ثمرها الأحمر الحامض، وعندما ينضج ويسودّ لونه يُصبح أكثرَ حلاوةً ويمسي ألذّ طعماً.

أُعجب تولستوي بحكاية هذه الشُّجيرة المقاومة والصامدة، التي تنجو حتى بعد دهسها بعجلات العربة، وعبث الإنسان وجوره. وهي الرمزُ الذي اختاره ليصنع منه إطاراً عامّاً لروايته، حيث يقول: كنت أسير في الحقول متّجهاً نحو منزلي. كنّا في عزِّ الصيف. وكانت الحقول يانعةً والموسم خصيباً والحصاد وفيراً. ثمّة في هذا الوقت من السنة مجموعةٌ رائعةٌ من الأزهار تزيّن الحقول هنا وهناك، قطفت طاقةً كبيرةً من مختلِف تلك الأزهار، واتّخذت طريقي إلى البيت رجوعاً، فلاحظت في خندقٍ قرب الطريق شجيرة (توت بريّ) في عزِّ عنفوانها، فكّرت في اقتطاف غصنٍ من هذه الشُجيرة وضمّه إلى طاقة الورد، فنزلت إلى الخندق وطردت دبّوراً كان قد تحصّن في وسط الأزهار نائماً هناك بسلام. حاولت أن أقطف الزهرة فوجدت العمل أصعب ممّا كنت أتصوّر، فقد أخذ الجذع يحزُّ كفّ يدي من كلّ جانبٍ وبعد نضالٍ عنيدٍ نجحتُ في قطع غصنٍ بذيل مشرشر، بل إنّ الغصن ذاته لم يكن بعد قطعه بتلك الطلاوة والجمال كما كان على أمّه. وأسفت كثيراً لأنّني أتلفت بحماقتي تلك الشُجيرة التي قاومت عدواني بحيويّةٍ وعنفوان؛ كم دافعت في سبيل حياتها مستبسلةً في مقاومتها المشروعة حتّى الرمق الأخير. كان طريقي يمرُّ في حقلٍ حديثِ الفلاحة ذي تربةٍ غنيّةٍ سوداء. وكنتُ أفكّر بقسوة الإنسان حين لمحت شيئاً مكوّماً على الجانب الأيمن من الدرب الذي أسلكه، وحين وصلت إليه وجدته حطاماً لشُجيرة (توت بريّ) أخرى. كانت الشُجيرة بثلاثة أغصان، وكان أحدُها مكسوراً وما تبقّى منه ظلَّ قائماً عارياً، وكأنّه جرموذ ذراع مبتورة، أمّا الآخران فقد أزهرا، وكانت الزهرتان بالأساس حمراوان، ولكنّهما أصبحتا الآن سوداوين. وكانت إحدى الساقين مكسورةً تدلّى طرفه العلويّ تجاهَ الأسفل وتعلّقت بطرفِهِ زهرةٌ معفّرةٌ بالغبار والطين. أمّا الأخيرُ فقد ظلَّ شامخاً رغمَ تلطّخِهِ بالتربةِ السوداء. لا شكَّ أنّ الشُّجيرة تعرّضت لعجلة إحدى العربات التي دهستها فاستقامت ثانيةً محطّمةً لكن ظلّت واقفةً على قائمتها. لقد انبعج جزءٌ من جسمها وانبثقت أمعاؤها وبتر أحد أذرعتها وفقئت عينها، مع هذا ظلّت صامدةً ترفض الاستسلام للإنسان الذي دأب على تحطيم إخوته الأحياء من حوله. حينئذٍ تذكّرت حكايةً داغستانيّةً قديمةً شهدت بعض فصولها وسمعت أجزاء أخرى من شهودٍ عيانٍ وتخيلت الباقي وإليكم الرواية كما تشكّلت في ذاكرتي.

هذهِ العتبةُ الجميلةُ الزاخرةُ بألوان الحياة النضرة التي يدخل منها تولستوي إلى أحداث الرواية شاهد حسن على النكهة الأخلاقيّة التي ميّزت تجربته الأدبيّة وأمدتها بقوّة فلسفيّة هائلة. لقد أُهملت الرواية من قبل القائمين على نشر الأعمال الكاملة مع أنّها تتمتَّع بجاذبيّةٍ خاصّةٍ تأسر القارئ ومسرودة بكلّ أناقةٍ ممّا يؤهّلُها للانتماء إلى ذلك الصنف من الأدب العالميّ رفيع المقام.

تُرجمت الرواية إلى العربيّة أوّل مرّة في سلسلة روايات مجلّة الهلال المصريّة في خمسينات القرن العشرين بقلم الأستاذ مجد الدين حفني ناصف. ثمَّ وجدت ترجمةً أخرى بقلم المحامي السوري سهيل أيوب، طباعة دار دمشق 1982. وهناك ترجمةٌ حديثةٌ لهفَال يُوسف صدرت عن دار نشر التنوير 2016 ولكن هفَال ترجم اسم شُجيرة (التوت البريّ) إلى نبتة (اللفت) وشتان ما بين النبتتين. والرواية تتحدَّث بوضوح عن شُجيرة (التوت البريّ) بكل أوصافها، وأهل المدن في العموم لا يعرفون هذا النوع من التوت إلا فيما ندر. ثمَّ وجدت ترجمةً أحدث قام بها محمد بدرخان بعنوان (حجي مراد) صادرة عن دار (أكتب) للنشر والتوزيع في القاهرة عام 2021. وأعتقد أنّ أقرب العناوين لترجمة اسم الرواية هو (حج مراد) كما نقول في بلاد الشام للحاج القادم من بلاد الحجاز، وفي مدينة إدلب نقول: (حج مراد) نحذف الألف من كلمة (حاج) لتسهيل اللّفظ.

الذي نبّهني لأهميّة هذه الرواية الأديبة السوريّة المعروفة ألفت الإدلبي – رحمها الله – وقد قرأت روايتها (حكاية جدي) وجدها هو (محمد جلبي) من داغستان، فهي تنتمي من طرف الأم (نجيبة داغستاني) إلى أسرةٍ هاجرت من داغستان إلى دمشق عام 1925 وما زالت فيها إلى الآن، وتحمل اسم (بيت الداغستاني). تناولت في روايتها كفاح أهل داغستان ضدَّ قوّات القيصر الروسي نيقولا الأوّل. وألفت الإدلبي كاتبةُ قصّةٍ عريقة ازدهرت في النصف الثاني من القرن العشرين وهي دمشقيّةٌ حَمِسة، كرّست معظم كتاباتها لمدينتها. ومدينتها دمشق مش إدلب، إنّما تأدلبت تبعاً لزوجها الطبيب حمدي الإدلبي على حسب العادة الغربيّة. لها روايةٌ مشهورةٌ اسمُها (دمشق يا بسمة الحزن) من منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي السوريَّة 1980 ومجموعات قصصيّة منها (قصص شاميَّة) و (وداعاً يا دمشق) وكتّاب مقالات بعنوان (نفحات دمشقيَّة). ورواية (حكاية جدي) هي الثانيةُ التي تناولُ هذه الفترة من كفاح أهل داغستان بعد رواية (حج مراد).

تحدَّث تولستوي أثناءَ كتابةِ روايتِهِ عن الحاجة إلى التعبير بالفنّ عن الجوانب المتغيّرة والمتناقضة عند البشر إذا تغيَّر السياق بدا الشخص ذاته بصورةٍ جديدة. قال: ما أحسن أن يتمكَّن المرء من كتابة عملٍ فنيٍّ يعبّر بوضوحٍ عن طبيعة الإنسان المتحوّلة عن واقعة أنّه شيطانٌ وملاكٌ في آنٍ معاً حكيم وأحمق. وتماشياً مع هذه الآراء حاول أن يقدّم بطله (حج مراد) مقنّعاً بأقنعةٍ كثيرةٍ مختلفة. ومن هنا نلمح جاذبية المشاعر العاطفيّة البشريّة التي يتحرّك من خلالها بطل روايته، التي يسمّيها مشاعرَ شديدةَ البساطة يوميّة ومتاحة للجميع.

كتب الأديب والناقد الأمريكيّ المشهور هارولد بلوم 1930 – 2019 صاحب كتاب (الشريعة الغربيَّة) بعد قراءةٍ تحليليَّةٍ لرواية (حج مراد). يقول: يصوّر الروائي الروسي الكبير حياةَ إنسانٍ حرٍّ تتقاذفه أمواجُ القوى الكبرى المتلاطمة، فتقرّر مصير حياته وحياة ملايين الناس من أمثاله الخاضعين لإرادةٍ بشريّة، لا ترى الحياة إلا من خلال منظرها الخاص القاضي بتنفيذ أوامرها العليَّة. إنّهم جزّارون قانونيّون، كما تصرخ إحدى شخصيّات الرواية (ماريا دميتريفنا) في وجه الضابط بوتلير.

العدد 1105 - 01/5/2024