هل تعيش الحركة النسوية حالة نكوص؟

إيمان أحمد ونوس: 

للمرأة في عموم المجتمعات البشرية أدوار أساسية متماثلة (الحمل، الإنجاب، رعاية الأبناء ووو الخ) ولكن هناك أدوار أخرى تختلف باختلاف ثقافة هذا المجتمع أو ذاك، وموقفه من المرأة عموماً، ونشاطاتها خارج بوتقتها الأنثوية خصوصاً.

ففي المجتمعات العربية والإسلامية، هناك منظور عام وشامل للمرأة لا تحيد عنه أيٌّ منها، بحكم التقاليد والقيم المجتمعية المتشابهة، وكذلك بحكم المفاهيم والموروث الديني المُستمدّ من النص المقدّس والتشريع الإسلامي والنصوص والمذاهب الفقهية المختلفة، والتي اتفقت جميعها على تبعية المرأة للرجل في مختلف مناحي الحياة انطلاقاً من قاعدة (الرجال قوّامون على النساء) التي تتفق معهم فيها حتى أنظمة الحكم في تلك المجتمعات.

وهذا ما أبقى المرأة حتى يومنا هذا، رغم وصولها إلى مستويات متقدمة في العلم والعمل، وتسلّمها مناصب قيادية- ولو بحدودها الدنيا- ورغم حصولها على بعض الحقوق السياسية كالترشّح والانتخاب، أبقاها رهينة تلك العقلية الذكورية- البطريركية، إن كان على مستوى الأسرة، أو على مستوى المجتمع والدولة، وعلى مستوى الأحزاب والنّخب السياسية الأخرى، ذلك أن مشاركتها في الحياة السياسية محدودة ومرهونة من جهة برغبة الحكومات القائمة بوجود طيف نسائي محدود في المناصب الرسمية تطبيقاً صورياً للاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها تلك الحكومات، ومن جهة أخرى بفضل إصرار الأحزاب السياسية الأخرى ومنظمات المجتمع المدني، لاسيما تلك الناشطة في الحقل النسوي على ضرورة تمثيل النساء ولو اعتماداً على مبدأ (الكوتا) تمهيداً لتوسيع حضورها في المشهد السياسي العام مستقبلاً.

غير أن التبدلات السياسية والتحوّلات التي طرأت على تلك المجتمعات خلال العقد الأخير قد تركت، لا شكّ، آثارها (السلبية والإيجابية) على المرأة التي ظهرت بقوة على الساحة السياسية، منذ اللحظات الأولى للاحتجاجات، من خلال مشاركتها في المظاهرات والاعتصامات المطالبة ببعض الحقوق والحريات المدنية، لاسيما تلك المتعلّقة بحقوق النساء المهدورة في مجتمعاتها.

ولا ننسى حضورها الطاغي في وسائل الإعلام سواء الرسمي أو المعارض، في محاولة من الطرفين لاستقطاب النساء إلى صفوفهم، ربما انطلاقاً من مبدأ أو قناعة أن النساء نصف المجتمع، ولا بدّ أن يكون لهنّ التأثير الكبير على باقي أفراد هذا المجتمع.

لكن، بعد أن حطّت الأحداث رحالها في بعض البلدان التي لم تشهد صراعاً مُسلحاً، فقد عادت النساء أدراجهن إلى ما كنّ عليه وربما أسوأ، وذلك بفعل الذهنية الذكورية المُتشبّثة بتلافيف الدماغ العربي عموماً، والمتجذّرة في نظرتها إلى المرأة لدى التيارات السلفية- الأصولية التي اقتنصت ثمار تلك التحوّلات، ما ترك أثره الكبير على عموم النساء، إذ لم يرتقِ نصيبهن إلى مستوى الطموح، ولا لمستوى مشاركتهن ومطالبتهن بحقوقهن، وفي هذا دليل واضح على استغلال مشاركة المرأة في لحظات وأوقات راهنية، فقط من أجل وصول الأطراف المُتنازعة إلى أهدافها لا أكثر، ومن ثمّ يجري النكوص والعودة إلى ذهنية ذكورية- اقصائية.

أمّا في البلدان التي شهدت وما زالت صراعاً مسلحاً، فإن وضع النساء فيها لم يكن أفضل حالاً قبل تحوّل الصراع إلى صراع مسلح، فرغم أن المرأة قد كانت حاضرة في ساحة المشهد السياسي بقوة، إلاّ أنه قد جرى لدينا في سورية التراجع عن بعض الخطوات الإيجابية مثل تعديل قانون الجنسية، مثلما تمّ التحفّظ أو تهميش بعض الخطوات والتوصيات الأخرى كتلك التي خرجت بها لجنة تعديل القوانين التمييزية ضدّ المرأة، فقد طُمست النتائج والاقتراحات التي توصّلت إليها هذه اللجنة.

لكن، بعد أن آلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم من حروب عبثية أتت على كل ما حققه المجتمع، فقد تعرّضت المرأة وما زالت للعديد من الممارسات الوحشية المخالفة لأي بعد إنساني تجاه المرأة كالاعتقال والسجن والخطف والاغتصاب، في محاولة لإذلال الخصم وذكور القبيلة الذين لا يرون الشرف إلاّ من خلال المرأة، ما ساعد على تفشّي تلك الظاهرة المرعبة فعلاً، والتي جعلت العديد من النساء يتوارين عن الساحة السياسية خلف حجب كثيفة، مكتفيات بدورهن التقليدي الذي تضخّم كثيراً بحكم فقدان الزوج أو المعيل، وبحكم النزوح والهجرات القسرية التي فرضتها الحرب، والتي حملت المرأة جلَّ تبعاتها، فقد أضحت المُعيلة الوحيدة في محيطها الاجتماعي والأسري، خاصة بعد تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بشكل سريع ومُريع خلّف ولا يزال آثاره الكارثية على المجتمع برمّته، مثلما فرض العديد من الأخلاقيات والسلوكيات البعيدة عن روح مجتمع ما قبل الحرب إلى حدٍّ ما، وجلّ هذه السلوكيات للأسف كانت من نصيب المرأة باعتبارها الحلقة الأضعف في المجتمع، ولعلّ أبرزها يتمثّل فيما يلي:

  • ازدياد نسب العنف والتعنيف الأسري بشكل لافت وصل حدّ القتل وغالباً على يد الزوج، وقد واكب الإعلام بعض تلك الحالات المُعلنة، بينما بقيت وتبقى الكثير من الحالات طيّ الكتمان، وتذهب ضحيتها النساء لأسباب مختلفة منها ما هو بداعي الشرف حين تحاول الفتاة الخروج على مشيئة القبيلة للمطالبة بإرث أو أيٍّ من حقوقها الإنسانية بعيداً عن الزواج غير المرغوب فيه.
  • ارتفاع نسب الدعارة التي كانت في الماضي مُستترة، بينما تحوّلت اليوم إلى ظاهرة لافتة، لكنها لم تلفت انتباه المعنيين بالأمر للحدِّ منها إلاّ بما يخدم مآرب البعض لاستغلالها لصالحهم.
  • ارتفاع نسب الأمية والتسرب المدرسي في صفوف الفتيات لأسباب تتعلّق بزواج القاصرات، أو تشغيلهن في العمالة المنزلية أو مهن أخرى لا تتوافق وبنيتهن النفسية والأخلاقية والجسدية كالدعارة مثلاً.
  • ارتفاع نسب الطلاق، لاسيما عند حديثي الزواج لأسباب تتعلّق بالاختيار الخاطئ الناجم عن السعي لزواج مادي بحت، بعيداً عن إمكانية التوافق الاجتماعي أو النفسي أو العمري، وذلك هرباً من الفقر ( هذا التوصيف يشمل الجنسين معاً) إذ كثيراً ما نرى زواج شاب من سيدة بعمر والدته، فقط لأنها ميسورة وتملك منزلاً!!
  • تبني الكثير من النساء والفتيات منظومة تفكير تقليدية/ ذكورية بحتة فيما يخص وضعهن ومكانتهن في الأسرة والمجتمع استناداً إلى التشريع الديني والاجتماعي السائد. وكذلك لجوء البعض منهن لأعمال السحر والشعوذة من أجل حلّ ما يعترضهن من مصاعب وإشكاليات صحية أو اجتماعية أو مادية، وكذلك النظر إلى الزواج على أنه الخلاص والمستقبل الوحيد للفتاة.

من كل ما تقدّم، نجد أن المرأة في ظلّ المتغيّرات تلك، ورغم الدور الكبير الذي لعبته، ورغم العبء الكبير الذي ناءت تحت أثقاله، لم تكن في نظر ذكور القبيلة أكثر من ورقة يتمُّ استخدامها من أجل تعديل الموازين لصالح أيّ من الأطراف المتنازعة سواء في البلدان التي شهدت تغييرات سلمية، أو تلك التي ما زالت تشهد حرباً لم تُحسم نتائجها ولم تستقر موازينها بعد. ولا يفوتنا تبدّل موقف المرأة من ذاتها، وتنكّرها الضمني لإنسانيتها من خلال تبنيها منظومة تفكير تقليدية كانت قد أفقدتها الكثير من حقوقها التي عملت الرائدات النسويات زمناً طويلاً لنيلها، وهذا ما ترك الحركة النسوية في حالة تخبّط ما بين المطالب الراهنية، والحقوق التي لم تصلها المرأة بعد، ما يعني وصولها لحالة من النكوص التي تعيدها إلى الخطوات الأولى بعد نضال طويل استهلك ما استهلك من عمر وجهد ونيل من سمعة النسويات الرائدات في الماضي وحتى اليوم. وفي مُطلق الأحوال، لا بدّ من الاعتراف أن كل تغيير يطول القيم والمفاهيم، سيحتاج إلى زمن طويل، وتضحيات كثيرة حتى تصل النساء إلى ما يليق بهنّ يوماً.

العدد 1104 - 24/4/2024