القطيع المطيع واحتمالات الخروج

حسين خليفة:

يتحدث الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل (1770 ـ 1831) مؤسس المثالية الهيغلية الديالكتيكية (الجدلية)، المعروف بكونه واضع مبادئ الديالكتيك في قراءة تاريخ المجتمعات (التناقض، وحدة الأضداد، الصيرورة، الصراع، التراكمات الكمية والكيفية…الخ) في كتابه (العقل في التاريخ) عن الشرق بوصفه (مجتمعاً من العبيد حيث لا وجود إلاّ لشخص واحد حر، وهو الحاكم (الإمبراطور)، أمّا المواطنون فهم جميعاً عبيداً لهذا الحاكم).

لكن حرية هذا الحاكم لم تكن تعبيراً عن فلسفة الحق عند هيغل، لذلك اعتبر الطاغية أيضاً إنساناً غير حر.

هل تغير الأمر كثيراً بعد ما يقارب قرنين من قراءة هيغل لمجتمعاتنا وتاريخها؟

بل يمكن أن نصيغ السؤال بطريقة أخرى: هل تقدمنا في صياغة علاقة أكثر تطوراً بين الحاكم والمحكومين، أم أننا تراجعنا إلى الخلف؟

وهو سؤال جدي على الأقل فيما يخص مجتمعاتنا، فحتى الصيغ البدائية من الديمقراطية التي عرفها تاريخ المجتمعات في مرحلة نشوء الأديان السماوية (الشورى مثلاً) أصبحت من الماضي الذي يتفاخر به المتمسكون بالأصول، مشيرين إلى الصيغ البائسة من الدكتاتوريات الحديثة، حيث يحكم مجتمعات بكاملها أفراداً مرضى ومعتوهون أحياناً رمتهم أقدار التاريخ وصُدفه السيئة إلى كراسي الحكم، ورغم ذلك تخرج الملايين لتُحييهم وتهتف بحياتهم وتصفق لحماقاتهم وتضعها في لافتات ولوحات أثرية، بل تُجمع بعض هلوساتهم الطفولية في كتب ومجلدات فاخرة (على سبيل المثال وليس الحصر طبعاً طُبعت ملايين النسخ من الكتاب السخيف المسمى بالكتاب الأخضر للقذافي الذي حكم ليبيا منذ عام 1969 وكان فتى يافعاً لم ينبت شعر وجهه بعد، وبقي يحكمها منفرداً إلى أن قتل عام 2011 تاركاً خلفه إرثاً من الطرائف والحكايات التي توضح حالة طغاة الشرق).

إذاً الحالة القطيعية في مجتمعات الشرق مستمرة وتتمدّد، وما قاله هيغل زاد أضعافاً مضاعفة، بعد ان استطاع الطغاة المعاصرون استثمار التطور التكنولوجي لا لتطوير مجتمعاتهم وتحريرها من التخلف والجهل والفقر، بل لتكريس سلطتهم الأبدية عبر التوريث سواء كانت ملكية أم جمهورية.

وهذه الحالة أصبحت من سمات المجتمع الذي يبادر إلى محاربة أي محاولة في تصحيح التاريخ والبدء ببناء مجتمعات مدنية تُصحّح العلاقة الأحادية والاستعبادية بين الحاكم والمحكوم، أي أن الناس المُستعبدين المقموعين المقهورين الجوعى يرفضون أي محاولة لتحريرهم، وهذه الحالة هي نتاج لقرون الاستبداد الطويلة، وتَطبُّع المجتمعات هذه بطابع الولاء لزعيم العشيرة أو رجل الدين أو الزعيم السياسي المحلي، لتجتمع كل هذه الولاءات وتتجه إلى شخص الحاكم الأوحد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، وممنوع التعرّض له ولو بنقد أو سؤال، إنه إله على الأرض كما قال فرعون لشعبه: أنا ربكم الأعلى.

هذا التجسيد المجتمعي لاستمرار الحالة القطيعية للمجتمعات الشرقية ليس قدراً أبدياً لهذه المجتمعات. بل إن معالجتها كحالة وكمجتمعات أيضاً تحتاج إلى إرادة وتضحية وإخلاص للحقيقة من النخب الفكرية والثقافية والسياسية المتنورة، والتي تحمل قيم رفض الحالة القطيعية واحترام الحرية الفردية بما فيها حرية الفكر والاعتقاد والممارسة السياسية.

يتعيّن على هذه النخب والقوى السياسية الثورية والمتنورة الرافضة لقيم العبودية والولاء للسلطات المستبدة بأشكالها كافة (دينية سياسية اجتماعية) أن تتخلّص أولاً من أمراضها هي التي كسبتها من المحيط الاجتماعي والثقافة السائدة، وتتخلّص من أحادية الفكر وادعاء احتكار الحقيقة، واحتقار المختلف وتسفيهه، لتتمكّن من نشر الأفكار التي تقول بها، إذ ليس أخطر من واعظ يفعل عكس ما يقول.

وتجارب (الثورات) التي شهدها العقد الأخير في أكثر من بلد عربي ضمن ما اصطُلح على تسميته بالربيع العربي، هذه التجارب تُبيّن مدى تأثير التخلف الاجتماعي والانحطاط السياسي (الذي تسبب به الاستبداد طبعاً) في حرف مسار الثورات الجماهيرية نحو إعادة إنتاج الاستبداد بألوان جديدة، وبالتالي ذهبت جميع التضحيات الجليلة للشعوب لصالح إعادة انتاج طغاة جدد وكأنك يا أبو زيد ما غزيت.

الموضوع شائكٌ ومعقد، ولا يمكن إعطاء وصفة جاهزة له في مقال صحفي طبعاً، لكنه مهمة النخب الفكرية والثقافية والسياسية المتنورة والعلمانية بتشديد السعي ضمن حدود الممكن في ظروف الاستبداد نحو نشر ثقافة العلمنة والمجتمع المدني والمواطنة وحرية الفكر والتعدد…إلخ، وبالتالي تكون هذه القيم حين تجد لها بيئة اجتماعية حاضنة هي الحامل لمشروع التغيير الحقيقي سواء كان تغييراً تدريجياً سلمياً أو تغييراً ثورياً عنيفاً حين يستعصي التغيير السلمي والخروج من الحالة القطيعية بالتطور السلمي والمنظم وليس العفوي طبعاً.

العدد 1104 - 24/4/2024