لنخرج من شرانق السائد!

إيمان أحمد ونوس:

التنوّع والاختلاف سمة من سمات الطبيعة والكون برمّته، وهذا ما كان له ولا شكّ كبير الأثر في ارتقاء وتطور الجنس البشري على مرّ التاريخ.. ولولا هذا الاختلاف والتنوّع بين عموم الشعوب بثقافاتها وحضاراتها وعلومها لما وصلت الحضارة الإنسانية اليوم إلى ما هي عليه من تطوّر طاول شتّى أنواع العلوم والآداب والحياة بكافة اتجاهاتها.

ومن هنا، يُمكن اعتبار التشابه في غير موضعه وضرورته سمة من سمات الموت البطيء والاندثار شيئاً فشيئاً سواء على المستوى الفردي أو الجمعي، وهذا ما لمسه أو عبّر عنه علماء الآثار والتاريخ والاجتماع عند دراسة بعض الشعوب والحضارات التي آلت إلى التلاشي والاندثار في الماضي السحيق من تاريخ البشرية. ذلك أن التشابه والتوافق في قضايا ومسائل تتّصل بالسيرورة والديمومة لا يمكن أن يرتقي بالإنسان أو العلوم أو الفنون أو سواها من أنشطة إنسانية. وهذا بالتأكيد ينطبق على الإنسان في محيطه الضيّق مثلما ينطبق على المجتمع أيضاً، فكلما كان هناك تنوّع واختلاف بين أفراد أو مكوّنات المجتمع، كان مجتمعاً مُنفتحاً على مختلف أوجه الحياة، ذلك أن الاختلاف يمنح الناس قيماً ومعارف وثقافات موجودة عند الآخر، يتمّ اكتسابها رويداً رويداً ما يؤدي إلى سموّ وتنوّع الثقافات وما يشابهها.

هنا، وإذا ما أردنا السؤال أو البحث عن كيفية تعزيز هذا الاختلاف واحترامه وتفعيله في حياتنا بشكل عام، لا بدّ أن نعترف – وربما نحن مدركون-  أنه يبدأ من الفضاء الأول لحياة الإنسان ألا وهو الأسرة والبيت أولاً وأخيراً، لأنه من حيث يبتدئ سينشر شذاه إلى باقي الفضاءات والمجالات التي يوجد فيها الفرد الذي ينشأ على حرية الاختلاف واحترام الآخر حتى لو كان مختلفاً، إضافة إلى حرية التعبير التي يجب أن يمتلكها ويشعر بها الطفل منذ تفتّح وعيه، وهذا لن يتمّ إلاّ عبر تربية أسرية- أبوية قائمة على امتلاك أُسس ثقافة منفتحة ومتنوعة، بعيداً عن الحالة القطيعية السائدة في النظام الأبوي السائد حتى اليوم بمختلف اتجاهاته الدينية والاجتماعية والسياسية ووو..الخ، والتي قيّدتنا إلى حدود بعيدة عن الخروج من شرانق تشعّبت حولنا فخنقت كل إمكانية للتفكير أو النهوض من واقع لا يتناسب ومعطيات العصر الحديث بكل ما فيه من تقنيات وعلوم وثقافات تفرض ذاتها علينا وبقوة من خلال عالم افتراضي رقمي دخلناه دون أن نتمكّن من امتلاك ناصية كل مفرداته ومعطياته التي لا شكّ لو تملّكناها لتحرّرنا من أغلب شرانقنا القاتلة. وهذا لا يمكن أن يحدث إن لم نخرج من عباءة القيم والمفاهيم والعقائد البالية الراسخة والمُتجذّرة حين نعمل أولاً على تحرير أنفسنا منها بامتلاك الجرأة والثقافة والوعي المطلوب لقيادة التغيير، وثانياً العمل على تربية أبنائنا تربية سوية منفتحة وعلمية، لأن أولئك الأبناء لاسيما اليوم، لا يمكنهم الخنوع طويلاً بعدما فُتِحَت أمامهم أبواب وفضاءات العالم الواسع والشاسع إن كان من خلال العالم الرقمي أو من خلال الاختلاط الذي حدث نتيجة اللجوء والهجرة القسرية التي فرضتها الحروب والنزاعات المحلية، فهذا الاختلاط بثقافات وشعوب سبقتنا بأشواط في التربية المُتحرّرة من كل القيم والعقائد المقيّدة لحرية الإنسان سيترك أثره ولا شكّ على الأجيال القادمة التي قد تتبنى مفاهيم مُخالفة ومُغايرة للسائد القائم والمُتجذّر في مجتمعاتها الأصلية.

لا شكّ أن خروجنا من هذا النفق حتمية سيفرضها واقع الحياة ومبدؤها القائم على الحرية والكرامة والاختلاف الذي يغني وجودنا الإنساني والحضاري معاً، وهذا لن يكون إلاّ في فضاءات تربية وثقافة قائمة على مبدأ التعددية والعلمانية والخروج من شرانق القيم السائدة والمقيّدة عن كل تطور وارتقاء للفرد والمجتمع.

العدد 1104 - 24/4/2024