ميناء سلام

وعد حسون نصر:

هذا ما نحتاجه ونبحث عنه في أوراق الزمن الغافية بين صفرة عدد السنوات، بين ذكرياتنا القديمة على الرفوف المكسوة بالغبار تُخبر عن سنين مضت ربما كانت تحمل بين طياتها ضحكاتنا، أفراحنا، ملابسنا الملونة، ألبومات لأناس في صور منهم من ما زال على قيد الحياة عاش يخبرنا عن مناسبة الصورة، ومنهم من خلد لسكينة الموت وأخبرتنا عنه الكلمات والذكريات. نبحث بين أشجار الحدائق، تلك التي حُفِرَت على أغصانها قلوب تنبض بالحب، وعلى مقاعدها بقايا أحاديث وبعض أغنيات.

كبير أو صغير يحتاج لميناء سلام، لخلود الروح، لراحة في الفكر بعيداً عن الضوضاء.  الظروف وتتالي الأزمات وقساوة المِحَنْ جعلتنا في قلق لا ندرك السعادة، لا نعرف الهدوء لدرجة أننا ابتعدنا عن السلام الداخلي، وبتنا بحاجة شديدة كي نحيا بأمان، لذلك عندما نصل إلى مرحلة من مراحل العمر، ونصل إلى النضج، نخلد لداخلنا نُعزّز السلام فيها، نبدأ بمرحلة عدم الاكتراث لقصص قد تبدو سخيفة من وجهة نظرنا، نقوم بعدم الرد أحياناً حتى لو كان الكلام يمسُّنا بشكل شخصي، حالة من السكون تقطن نفوسنا.

أشخاص نشعر بثقلهم على أرواحنا فنتجاهلهم، لا نرى رسائلهم عبر وسائل التواصل، نلغي متابعة صفحاتهم نتجاهل تعليقاتهم.. نسعى للسكينة مع كلمات أغنية قديمة تعود بنا لزمن ذهبي عشنا فيه ونحن ننعم بأبسط الحقوق بحياة كريمة نوعاً ما، دراما لمسلسل قديم نعيد مشاهدته نحلق بذاكرتنا معه بزمن الطيبين ونسرد لحظات مع دغدغة الذكريات.

كم شخص منّا يملأ زجاجات العطر الفارغة برائحة قديمة من عطره في الزمن الماضي ليعيش معها حنين أيام الشقاوة بتفاصيل تُفجّر بحراً من المشاعر انحصرت مع العمر والزمن بين صخور أرواحنا الميتة ونفحة من هذا العطر أحيت الروح من جديد.. كلما حركّت نسمة هواء الملابس فاحت منها رائحة العطر مع الذكريات.

الكثير منّا وصل إلى مرحلة مسح رسالة أو مقطع صوتي من أشخاص قبل قراءتها أو سماع المقطع لأنه يُدرك سلفاً أن الكلمات قد تزعجه، ولا يريد أن يخلق عراكاً داخلياً لمجرّد أحاديث سطحية وتُرَّهات وعتاب لا يحمل بين طياته سوى الأحقاد.. الكثير أيضاً يفضّل المكوث بين جدران منزله مع كأس من المتة وصحن من المقرمشات أو سندويشة لبنة وأغنية قديمة على أن يذهب لحفلة فخمة ممزوجة بالتفاخر والتصنّع والتقليد والوشايات.

هذا السلام أجمل ما يمرّ به الإنسان في مرحلة من مراحل العمر، فهو الخلود.. وهو قمة النضج، هو حطب سنوات العمر يُشعلها وقت النشوة في ليالي وحدته لتتوهج فيها الحياة من بعد الموت في صخب الدنيا وفوضى البقاء.

لذلك، ومهما عصفت بك رياح اليأس، اخلد في ميناء سلامك الداخلي وأشعل في فكرك عوداً برائحة البخور المفضّل لديك، ودندن أغنية تعود بك لمرحلة كانت همومك فيها مجرّد نزهات عابرة، ستجد نفسك في سلام وتشعر أن الحياة مجرّد محطّات سنصل إلى آخر محطة في ميناء السلام قبل الراحة الأبدية بخلود رحمة الموت.

العدد 1105 - 01/5/2024