اختلاف أبنائكم ليس بخلاف

د. عبادة دعدوش:

تدور عجلة التقدم اليوم لتصنع بُعداً جديد وتطورات وآفاقاً جديدة قد يتقبّلها البعض من الجيل الجديد أو ما يسمّى جيل التكنولوجيا، وقد يذُمُّها البعض الآخر ويعتبرها مُهَدِّدةً لقيم وعادات كبر عليها والأغلب هم الجيل القديم من الآباء.

لا نستطيع أن ننكر اليوم رهبة التطور السريع، ولا رهبة القفزة الكبيرة التي يشهدها العالم، لكن هل من الممكن أن تكون سبباً للخلافات المستمرة في علاقة الوالدين مع أبنائهم؟!

منذ القِدم كانت مهمة التربية أسهل نوعاً ما من حيث قدرة الأهل على بناء قيمهم الراسخة وأفكارهم التي تربّوا عليها، وأن يقوموا بغرس أسسها في شخصيات أولادهم وإعادة إحيائها في عقولهم، فتبقى ثقافة مُتجذّرة يحملها الفرد إلى أجيال قادمة. ولأن المحيط المعيش سابقاً كان صغيراً، فقد كانت وسيلة الأهل في التحكّم بتنشئة الأبناء وسيلة سهلة، فلا باب جديد قد يُفتح للتمرّد والعصيان، ولا تطور قد يُعيق الأفكار التي زُرعت أو يجعلها موضعاً للتشكيك، الأمر الذي جعل الأبناء والأهل بعيدين إلى حدٍّ كبير عن الصراعات وعدم التفاهم تحت بند (تربّينا كما ربّونا وتربّوا).

اليوم في القرن الحادي والعشرين، ومع التطور السريع والتقدم الذي يسابق أو يُناهض أيّ رسوخ لا يخدمه من الماضي، أصبحت تلك العلاقة بين الوالدين والأبناء من أعقد العلاقات وأصعبها، بسبب نمو فجوة كبيرة بين عادات الماضي وأفكاره وقيمه، والتطور اليوم وتسارع عجلة التكنولوجيا ووجود مواقع التواصل الاجتماعي والبرامج الجاذبة لصنع ثقافة موازية لثقافات شعوب العالم الآخر وعاداته.

فالمساحة بين الأبناء وتلقّيهم لأيّ معلومة أو شعور أو فكرة أو ثقافة جديدة مهما كانت (سلبية أم إيجابية) قد تقلّصت بسبب وجود عالم الإنترنت والتلفاز والانفتاح على الشعوب والأمم الأخرى. ونرى أن هذا الأمر قد جعل الشباب اليوم في محاولات مستمرة للتفرّد بشخصياتهم وكسر التبعية والنمطية وبناء شخصية مختلفة وعادات مُغايرة وبعيدة عمّا يريد الأهل ترسيخه كما السابق.

وللحقيقة هذا ما جعل الوالدين في موقع هجوم دائم على أبنائهم، وشعورهم بأنهم باتوا يعيشون مع أعداء أو أبناء ليسوا من صلبهم، فيتحوّل عدم تقبّلهم لهذا الواقع إلى نوع من الشعور بنقص التقدير وعدم الاحترام والتمرّد عليهم واستغفال وجودهم، ولهذا تصبح الأمور أعقد، مثلما تطول المسافة بينهم وبين أبنائهم، وقد يتحول المنزل لحلبة صراعات ومشاكل يومية وتوتر وانفعالات تهدم شخصية الأبناء وصحتهم النفسية وتزيد من حدّة السيطرة القسرية للأهل، وكأنّ المنزل بات مكاناً لعيش عدوَّين كلّ منهما يستخدم سلاحه ليثبت أنه على حق، بدلاً من جعله الملاذ الآمن الذي يجمع العائلة بحب وتفاهم بعيداً عن ضوضاء الخارج والظروف القاسية.

بإلقاء الضوء على الفكرة الأساسية، فالوالدان والأبناء كلاهما على حق بنقطة معينة. الوالدان يحكمهما الخوف من التطور الجديد لأنهم خلقوا وكبروا على عادات وتقاليد قديمة وطويلة الأمد لم يكسرها أحد، فيصبح من الصعب أن يشهدوا ويتقبّلوا تقدم العالم اليوم وتنوع الثقافات وظهور مواقع التواصل الاجتماعي التي أتاحت كل شيء في العالم دون رادع أو قوانين، لذلك يستمر عراكهم وإصرارهم وتعنّتهم في تربية الأبناء كما تربّوا، وما هذا إلاّ من باب خوفهم فقدان أبنائهم وارتكابهم للأخطاء. لكن الطرق والمفاهيم الفظّة والصارمة والأسلوب القاسي البعيد عن التفسير الصحيح تجعل الأبناء أكثر ميلاً للتمرّد والاضطرابات السلوكية والنفسية، وأكثر تعلّقاً بالأنترنت ومواقع التواصل المختلفة. وهنا يصبح الخلل أكبر لأنه من حق الشباب مواكبة تطورات العصر وبناء أنفسهم واستقلالهم بتعلّم مهارات جديدة، وتحمّل المسؤولية بدعم كبير من الأهل وليس بالسيطرة والتحكّم المُتشدّد.

فما هي أسباب هذا الاختلاف:

_تعرّض الشاب لصراع داخلي مستمر بين ما يريد أن يكون وبين ما يريده الأهل أن يكون.

_لكل زمان أشخاص، وكل جيل يملك سلوكيات ومعارف مختلفة، الأمر الذي يجعل الوالدين في دفاع مستمر عن آرائهم ضدَّ الأبناء.

_وجود التطور التكنولوجي الذي خلق تباعداً جديداً من خلال كثرة المعلومات، وكثرة مواقع التواصل.

_التعرّف على ثقافات جديدة لدى بلاد وشعوب مختلفة من خلال البرامج الكرتونية والمسلسلات والأفلام، وعدم تقبّل الأهل لتلك الثقافات والنظر لها على أنها أكبر عدو.

_عدم وجود ثقافة احتواء للأبناء لتوعيتهم حول التطور التكنولوجي الجديد وما فيه من إيجابيات ومخاطر في الوقت ذاته.

جميع تلك الاختلافات جعلت الفجوة في علاقة الوالدين مع الأبناء تكبر وتصبح خلافاً جوهرياً لعدم احتوائها وتحويلها لطريق النقاش المثمر والتواصل الفعّال بين الطرفين.

من حق الأبناء أن يجري احتواء أفكارهم ونموهم السريع ضمن عالم جديد، ومن واجب الأهل إفساح المجال للجيل الجديد أن يثبت نفسه ويصنع هويته بعيداً عن عادات تجعله مقيداً، كما من واجبهم أيضاً التقبّل ومواكبة ما يجري بهدوء وانسيابية من خلال اعتماد أسلوب الحوار والتوصل إلى نتائج ترضي الطرفين بعيداً عن زرع الخوف والسيطرة.

(لا تربّوا أولادكم كما ربّاكم آباؤكم، فأولادكم خُلقوا لزمان غير زمانكم!).

العدد 1105 - 01/5/2024