الإنثروبولوجيا والجسد الإنساني.. رؤيتان

يونس صالح:

إن الإنثروبولوجيا  أو (علم الإناسة) كما يقال، يكاد يستوعب اليوم دراسة كل ما يتعلق بالإنسان فكراً وأدباً وفناً واجتماعاً واقتصاداً وسياسة.. يكاد يكون هو علم علوم الإنسان، ولعل دراسة الجسد الإنساني أصبحت من أبرز دراساته.. فوجود الإنسان هو وجود جسده، والجسد موجود في قلب العمل الفردي والاجتماعي، وهو ليس مجرد بنية مادية، بل هو قلب الرمزية الاجتماعية.

إن الموقف من الجسد له طابع تاريخي بدءاً من المجتمعات البدائية والتقليدية التي لم تكن تميز بين الجسد والشخص، إلى المجتمع الحديث الذي أصبح يقيم ثنائية بينهما.. بيد أن انقطاعاً برز عبر التاريخ بين الجسد والشخصية الإنسانية مع بروز الفردية، وذلك على خلاف الوضع في القبائل القديمة التي كان الجسد فيها يستعير خصائصه من البيئة التي يعيشها فيها، وكان الإنسان وجسده والبيئة المحيطة يشكلان وحدة واحدة، وهذا هو الشأن في المجتمعات التقليدية السابقة على المجتمعات الحديثة عامة، كانت هناك علاقة بين الإنسان وجماعته والعالم ولا سبيل إلى التمييز بينهما، بيد أن الجسد لدى إنسان الحداثة الذي ولد بين القرنين 17 و18 أصبح مقطوعاً عن الكون وعن الآخرين وعن نفسه، بل أصبح مقروناً بالملكية لا بالكينونة. لم يعد جزءاً من كينونة الإنسان، بل أصبح ملكاً له.. ولعل ديكارت هو أبرز من عبّر عن هذه الثنائية عندما اعتبر أن الفكر منفصل عن الجسد، وهو مرتبط بالله، بينما الجسد هو مجرد آلة بلا روح، وبالتالي أصبح الجسد غريباً عن الإنسان، ونُزعت عنه قدسيته أو أصبح حقيقة مستقلة. لقد سلبت الحداثة الجسد من كل قيمة ذات طابع أخلاقي أو رمزي، وجعلته عارياً على غرار النموذج الميكانيكي.

ومع ذلك، وفي مواجهة هذه النظرة الحديثة للجسد، نلاحظ عودة إلى الأفكار القديمة والرؤية الشعبية التي لا تعزل الجسد عن الإنسان والكون، ويتجلى ذلك في أشكال مختلفة من السلوك مثل الرجوع إلى البعد الوجودي لا البعد العلمي العقلاني، وهكذا أصبحت هناك رؤيتان للجسد:

* رؤية حديثة علمانية، ميكانيكية نفعية ثنائية، أصبح فيها الجسد مجرد سلعة للبيع والمتاجرة والاستمتاع.

* رؤية أخرى شعبية توحّد بين النفس والجسد وتعطي للجسد قيمته الرمزية والأخلاقية.

بيد أن الرؤية السائدة هي الرؤية الثنائية الميكانيكية النفعية..

هذه بعض الملامح الأساسية لمفهوم الجسد والتعامل معه في الثقافة الغربية السائدة بل في العالم المعاصر عامة. لقد تحول الجسد بالفعل إلى قوة إنتاج وأداة عاملة، وسلعة للمتاجرة، ورأسمال للاستثمار والربح. لقد فقد قيمته الرمزية والأخلاقية، وتحول إلى تجارة رائجة للجنس، بل أصبح الجنس يمارس شفاهة خلال أجهزة المعلوماتية، وينقل إليك، ويحاورك في كل ما تطلبه، بما في ذلك إثارة أحاسيسك الشبقية وإرواؤها شفهياً، بل إن الرياضة أصبحت تجارة دولية بألعابها وجوائزها وملابسها وما يرتبط بها، فضلاً عن التغييب عن القضايا الإنسانية.

إلا أن توجيه الاتهام بهذا الخصوص إلى العقلانية والحداثة، دون رؤية البعد الاجتماعي والسياسي الذي يستغل هذه العقلانية- الحداثة لصالحه هو أمر يحتاج إلى مناقشة. لا شك أن نشأة البرجوازية كانت وراء بروز الفردية، خروجاً من مرحلة الاستعباد الإقطاعي، ولا شك أن بروز الفردية قد عبّر عن نفسه في النزعة الرومانسية في الأدب والفن وحركة (دعه يعمل دعه يمر) في الاقتصاد، وفي حساب اللذات في الأخلاق إلى غير ذلك.. إلا أن الفردية هنا لا تعني مجرد الفرد حسب رأيي، وإنما المجتمع المقام أو المؤسس على العلاقات الفردية. أما الفردية من حيث إنها إحساس الإنسان بنفسه ووعيه بذاتيته وجسديته وإنسانيته، فهي أعرق من هذه المرحلة البورجوازية، فالفردية لم تخلقها المرحلة البورجوازية، اللهم إلا اعتبارها نظاماً اجتماعياً يتغرب فيه الإنسان، وهذا التغرب قد يأخذ أكثر من اتجاه.. قد تكون السيطرة على الجسد وسيلة للسيطرة على النفس والفكر وذاتية الإنسان بل إلغاؤها (يتمثل هذا في الرق والإقطاع)، وقد تكون السيطرة على فكر الإنسان وعقله ووعيه وحياته الاجتماعية هي السبيل للسيطرة على جسده وحركته وممارساته، وهو ما نشاهده في عصرنا الراهن في ظل النظام الرأسمالي وما شاهدناه في ظل التطبيق البيروقراطي في النظام الاشتراكي.. أي أن جوهر الاغتراب الإنساني في النهاية سواء كان ببيع جسده أو بيع روحه هو الاستغلال والاستعباد الذي تحقق عبر التاريخ بمستويات وبدرجات مختلفة اجتماعية وثقافية واقتصادية وجنسية وجسدية سواء عبودياً أو إقطاعياً أو رأسمالياً أو بيروقراطياً أو أيديولوجياً.. ولهذا فالأمر لا يتوقف على الحداثة وإنما يتخلّق بالاستغلال تاريخياً على اختلاف تجلياته.. ولهذا فلا خلاص من هذا الوضع إلا بتحرير الإنسان من السلطة المستغلة القامعة والمغيّبة لوعيه، وذلك بإشاعة العلم والديمقراطية والعقلانية وليس بطمسها والارتداد إلى مرحلة تاريخية لا عقلانية سابقاً تحت مختلف الأسماء، أو بالتسامي الفرويدي أو الحرية الجسدية الشبقية المطلقة.

العدد 1105 - 01/5/2024