صانعة الفرح الحزينة.. إيزابيل ألليندي

فادي إلياس نصار:

إضافة الى شهادة عمها الزعيم الماركسي لجمهورية تشيلي سلفادورالليندي، ورحيل شاعر البلاد العظيم بابلو نيرودا، كانت وفاة ابنتها باولا الرقيقة، وردة عمرها، قد خدّدت حياتها بصليب العذاب والمرارة.

وُلِدت إيزابيل الرقيقة في الثاني من شهر آب (أغسطس) سنة 1942، فهي من برج الذكاء، وكانت قد بدأت الكتابة في سن متقدم، ربما كانت حينذاك على مشارف الأربعين من العمر، ورشحت مراراً للحصول على جائزة نوبل. يمكن أن تصنف أعمالها ضمن ما سمي بالواقعية السحرية التي بدأها غابرييل غارسيا ماركيز.

كان والدها توماس الليندي سفيراً، الأمر الذي جعل حياتها عبارة ترحال دائم وطويل، تراكم خلاله في ذاكرتها الكثير من الحكايات، فتحولت بذلك إلى روائية مجتهدة في سرد تفاصيل حميمية ورائعة، فقد نسجت إيزابيل الليندي روايات تضج بأحزان الناس البسطاء، وأحلام الصبايا العاشقات، تضجّ بحكايات جلّها دافئ، لعشاق سكارى، لصوص، أطباء، مخبرين وقتلة، شعراء ومبشّرين بالدين، قراصنة وبحارة، سماسرة ومهربين وتجار عبيد، أصحاب سوابق وسجناء هاربين، قوّادات ومومسات وبهلوانات، أطباء وسفراء، عالم متكامل يشبه تماماً أمريكا اللاتينية.

 

قصة تشيلي الحزينة

حصل الانقلاب الدموي على عمها سلفادور الليندي الذي قتل نفسه بعد أن أمن هروب رفاقه من قصر (لامونيدا) (القصر الرئاسي في تشيلي)، قبل سقوطه بأيدي زباينة السفاح أوغستو بينوشيه، عام 1973، بعد ذلك بأيام توفي شاعر تشيلي العظيم نيرودا، حينذاك قالت إيزابيل: لقد ودعنا حريتنا وديمقراطيتنا يوم دفنا بابلو نيرودا. وفي 1975 نُفيت الليندي إلى فنزويلا، غير أن الصدمة الأعظم في حياتها كانت وفاة ابنتها باولا في 1993 عن عمر ثمانية وعشرين عاماً. كل هذه الأحداث الدرامية تظهر آثارها فيما بعد وبشكل واضح في روايتها الأولى (بيت الأرواح).

 

الأسرة هي مركز العالم

تصنع إيزابيل الليندي في معظم أعمالها أرشيفاً لأسرتها، فهي تشرّح الشخصيات، تسرد وقائع وتفاصيل عائلية بدقة وبراعة وتنبش أسرار عماتها وأخوالها وزوجها الأول (بيت الارواح) وإن بأسماء مستعارةٍ. غير أن من يعرف ايزابيل جيداً يقول إنها تتكلم عن أسرتها، فرداً فردأً.

مشاهد وحوادث جرت في سنوات التسعينيات من القرن الماضي، والنصف الأول من القرن الجديد. قصص تمخر عباب عالمها العائلي الخاص والعام حيث هاجس وجود الأسرة موروثاً في جيناتها اللاتينية الدافئة، علاقاتها الصادقة مع الناس، سواء كانوا من نسلها، أومن نسل زوجها الأمريكي (ويللي) أو من الآخرين الذين ربطوا حيواتهم وأقدارهم مع حياة تلك الأسرة وقدرها.

فالأسرة في كتابات إيزابيل تبدو وكأنها مركز العالم وأساسه، إن انهارت انهار كل شيء بعد ذلك.

لقد كتبت بصدق لأنها تعرف أدق التفاصيل وكل الأسرار تقريباً عن كل الأقارب والأصدقاء، تعرف عميق الأشياء وأكثرها حميمية في أسرتها، وبهذا كانت وفية لنصيحة كبار الكتّاب الذين يشيرون إلى ضرورة أن يكتب الروائي عمّا يعرفه جيداً. وماذا يعرف المرء أكثر من معرفته لذاته وتاريخ أسرته؟

 

فنانة تحول حزنها إلى فرح

تبدو الليندي في معظم أعمالها الروائية بارعة في تسجيل رؤية إزاء الأوضاع الاجتماعية والسياسية السائدة، كذلك تفصح عن آرائها في مسائل شتى مثل الحب والزواج والجنس والشذوذ الجنسي والطلاق والصداقة واليساريين والملحدين، والفنانين والانضمام إلى الجمعيات.

لقد جعل منها موت ابنتها باولا امرأة حنونة ذات مسحة من الحزن الشفيف، مسكوبة في إطار ذهبي على صفحات روايتها الشهيرة (باولا) التي يشعر المرء عند قراءتها بانه في عالم جميل شاعري ولكنه حزين حزناً عميقاً. إذ يتنقل طيف باولا بين الصفحات ناعماً خفيفاً يغلّف السرد بالرهبة والغموض.

تؤمن إيزابيل بأننا أرواح ليس غير، فتقول في ذلك: (الغموض السحري ليس وسيلة أدبية، ليس ملحاً وبهاراً لكتابها، وإنما هو جزء من الحياة نفسها). وهذا الغموض نجده واضحاً في روايتها الأولى (بيت الأرواح) إذ نراها مغرمة بعالم الماورائيات بما هو معجز وسحري.

كاتبة من طراز (إيزابيل الليندي) قادرة بإبداعها أن تخرج كل الذكريات من شكلها الحزين وروحها الكئيبة لتجعلها تسبح في بحر من النور والفرح والجمال، تستطيع التقاط لحظات الفرح والحزن والإحباط والغضب واليأس والرغبة من شعوب البلدان التي عاشت فيها، لتسكبها كلها في حبكة روايتها مبتعدةً عن المواربة والنفاق الاجتماعي، بصدق وبلغة تكاد تكون أقرب ما يمكن إلى نبرة الثوار في أمريكا اللاتينية، قوية، شجاعة وجميلة.

 

روائية أم مفكر ماركسي؟

في رواية (ابنة الحظ) لإيزابيل الليندي نجد الروائية تشابك مجموعة من الحكايات المتوازية، فالرواية تذكِّرنا، بالكثير من سابقاتها، ذات لغة سهلة تتدفق بسلاسة ويسر ومن غير تقعر أو تعرجات.

إلا أن تقنيات قصص ألف ليلة وليلة، تبرز في روايتها هذه بشكل صارخ: تتوقف حكاية لتبدأ حكاية جديدة وتنتهي الثانية حتى من أجل حكاية ثالثة، وهكذا في تنقلات سردية مكوكية تحتاج إلى قراءة متأنية، للإمساك بخيوطها، امتداداتها، تشعباتها وتداخلاتها.

كما تثبت إيزابيل الليندي في هذه الرواية أن العمل الروائي ليس مجرد سرد خيالي محض، بل هو نوع من الاجتهاد الفكري المنجز في إطار الحركة الثقافة للمجتمع، ولكن كي يتحقق هذا الإنجاز يحتاج الى حقل واسع من المعلومات العلمية والتاريخية، ورؤية إنسانية ناضجة وعميقة، كما يحتاج إلى تراكم فلسفي حول خبايا النفس البشرية وتضاريس العلاقات الاجتماعية، ذلك أن العمل الإبداعي هو الطريق الممتعة لولوج عالم السياسة الممل، رغم لذته.

ترصد إيزابيل في روايتها (ابنة الحظ) بوعي مفكر سياسي مخضرم التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في مدن ودول، في حقبة مهمة من تاريخ الرأسمالية، هي حقبة الاستعمار، توضح كيف تولد المدن والموانئ وطرق المواصلات وتوظف العلوم والتكنولوجيا في الإنتاج وتزدهر الاستثمارات والأعمال ويحصل الاستغلال وتنشأ طبقات اجتماعية وتختفي أخرى، وتتعمق الفجوات بينها، ويُباد البشر، ولاسيما الهنود الحمر، سكان أميركا الأصليين.. ينهار عالم ويقوم على أنقاضه عالم آخر وتتبدل القيم والأفكار والاهتمامات والثقافة وأنماط السلوك، حتى تبدو المؤلفة للقارئ وكأنها أحد المفكرين الماركسيين وهو يقوم بشرح كتاب رأس المال الشهير، ولكن بطريقة سلسلة وممتعة.

العدد 1105 - 01/5/2024