بدائل العولمة: أقلمة الاقتصادات العربية

محمد شعباني:

عوملت العولمة الرأسمالية السائدة منذ الثمانينيات، كقدر محتوم على دول الجنوب، وكأنه لا سبيل لتحقيق التنمية الاقتصادية إلا بها، لكن التجربة التاريخية لتطبيق الليبرالية الاقتصادية وبرامج إعادة الهيكلة والتكيف، أثبتت فشل هذه الوصفة. ولا تشكل المنطقة العربية استثناءً من ذلك الفشل، بل لعلّ تجربتها أكبر دليل عليه، إذ بيّن العقد الأخير من تاريخ المنطقة ما يمكن أن تؤدي إليه الليبرالية الاقتصادية، والاندماج في العولمة الرأسمالية والتكيّف مع متطلبات نموّ المراكز الرأسمالية، من نتائج كارثية على الشعوب. لكن ما هي بدائل العولمة؟ وما هو دور التعاون الاقتصادي العربي البيني فيها؟

 

تراجع العولمة واستمرار التبادل اللامتكافئ

تاريخياً، مرّت العولمة بثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى تتمثّل في رأس المال الاحتكاري الاستعماري، التي استمرت من نهاية القرن التاسع عشر إلى الحرب العالمية الثانية، وهي عولمة رأسمالية قائمة على الاستعمار والهيمنة المباشرتين على شعوب ما يُعرف اليوم بدول العالم الثالث، من قبل رأسماليات وطنية في الغرب واليابان. انتهت هذه الحقبة بفضل انتصار السوفيات في الحرب العالمية الثانية وتشكيل المنظومة الاشتراكية، واستقلال الصين عام 1949، وتشكيل مجموعة دول عدم الانحياز (عام 1962) وهي دول نالت استقلالها بعد ثورات وطنية ضدّ الاستعمار والهيمنة الإمبرياليين. شكّلت الظروف السياسية الدولية، الأرضية اللازمة لتحقيق ما يُسمى بـ(العولمة المتفاوض عليها)، فأجبرت المنظومة الاشتراكية والصين ودول عدم الانحياز، الإمبريالية على تقديم تنازلات والقبول بشروط التبادلات الاقتصادية للبرامج التنموية المختلفة للدول الطرفية.

لم تدم حقبة (العولمة المتفاوض عليها) طويلاً. فقد استنزفت حدودها التاريخية مع ثمانينيات القرن العشرين، وعاد العالم إلى مرحلة العولمة الرأسمالية الاحتكارية، التي باتت أكثر اتساعاً من أي وقت مضى لتصل إلى ذروتها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. إذ باتت التجارة الدولية تشكل أكثر من 60% من إجمالي الناتج العالمي، فيما لم تكن تشكّل في عام 1970 سوى 25%، أما الاستثمار الأجنبي المباشر فكان يشكّل أقلّ من 0.5% من إجمالي الناتج العالمي، ثم أصبح خلال الفترة نفسها يشكل نحو 6%. وكان من نتائج العولمة وخضوع معظم الدول الطرفية لبرامج التكيف وإعادة الهيكلة، أن وقعت معظمها في أزمات اقتصادية واجتماعية انفجرت سياسياً في عدد منها خلال العقدين المنصرمين كان من بينها العديد من الدول العربية التي ما زالت غارقة في أزمات اقتصادية وسياسية معقدة.

بعد الأزمة الرأسمالية في عام 2008، اتبعت المراكز الرأسمالية سياسة اقتصادية عُرفت بـ(التيسير الكمي)، ومكّنت من خلالها، من تسهيل تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج عبر خفض سعر الفائدة، وبالتالي تقليل كلفة الاقتراض، إلا أن هذه المرحلة لم تدم طويلاً، ففي عام 2014 بدأت المراكز الرأسمالية، ولا سيما الولايات المتحدة، في عكس هذه السياسات عن طريق تطبيق سياسة (التشديد الكمي) التي رفعت كلفة الاقتراض، وظهرت نتائج هذه السياسة في أزمة مديونية عالمية حادة، انخفض معها حجم الاستثمارات الأجنبية من إجمالي الناتج العالمي إلى حدود الـ2%. ومن ناحية التبادلات التجارية، فإن الميل العام بات يشير إلى تراجع حصّتها من إجمالي الناتج العالمي، إذ انخفضت من نحو 60% في عام 2007 إلى 56% في عام 2021، ومن المرجح أن تنخفض هذه النسبة إلى ما دون ذلك مع التوجهات الاقتصادية الجديدة للمراكز الرأسمالية نحو الحمائيّة التجارية بل والاستثمارية، وسعيها لتوطين وإعادة توطين السلع التي تعدها ذات أهمية حيوية وأمنية، مثل أشباه الموصلات.

لكن رغم التراجع النسبي لحجمي التبادلات التجارية السلعية والاستثمارية، فإن العولمة الرأسمالية الاحتكارية لا يمكن أن تنتهي أو تعود إلى ما قبل توسعها الكبير في الثمانينيات، بسبب تعقد وترابط سلاسل التوريد، وتعمّق التخصّص والتقسيم الدولي للعمل، والاعتمادية الاقتصادية المتبادلة في مجالات حيوية مثل السلع الزراعية الأساسية ومصادر الطاقة وغيرهما. كما أن العولمة على صعيد الخدمات آخذة في الازدياد. وباختصار فإن الميكانيزمات الاقتصادية والجيواستراتيجية لن تؤدي إلى إلغاء شروط التبادل اللامتكافئ بين المراكز والأطراف، التي تقوم عليها العولمة الرأسمالية الاحتكارية، حتى مع استمرار انخفاض حجم العولمة، فآلية التبادلات الاقتصادية هي هي بالنسبة إلى الدول الطرفية التي ما زالت خاضعة لشروط النمو الرأسمالية في المراكز. وبالتالي لا بدّ من البحث عن بدائل للعولمة القائمة، وإلا فإن الدول الطرفية ستكون معرضة لموجة جديدة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي قد تفضي إلى أزمات أكثر شدّة من التي تعرضت لها، ولا سيما في المناطق التي تشهد استقطاباً وتنافساً إقليمياً ودولياً، كحال المنطقة العربية.

 

هل من بديل للعولمة في المنطقة العربية؟

قبل البدء في التفكير عن بدائل العولمة بصورتها الحالية، يجب التخلّي عن أوهام العولمة السائدة، وعدم الاستناد إلى تجارب دول أخرى حققت مستويات مرتفعة من التنمية في ظل العولمة، مثل تجربة الصين، لأن تجربتها مع العولمة هي مختلفة تماماً عما جرى في دول أخرى خضعت لآليات التكيّف وإعادة الهيكلة الليبرالية، كما أن تجارب الليبرالية الاقتصادية في الدول العربية، كما في غيرها من الدول الطرفية، أثبتت فشلها.

إن بديل العولمة السائدة بالنسبة إلى الدول العربية، يتمحور على مستويين داخلي وخارجي؛ داخلياً يتركّز في تطبيق التنمية الاقتصادية القائمة على الذات، أي إخضاع التبادلات الاقتصادية لشروط التنمية الداخلية اقتصادياً واجتماعياً، لجهة تحديث الصناعة، والزراعة العائلية مع تمدين الريف خدماتياً، وربط القطاعات الثلاثة (الصناعي والزراعي والخدماتي) بحلقة إنتاج متكاملة، أي الانتقال من نموذج القطاعات الاقتصادية المتراصفة المرتبطة رأسياً بسلاسل التوريد الرأسمالية المعولمة، إلى نموذج القطاعات الاقتصادية المتكاملة، بحيث تخدم القطاعات بعضها. وفي جعل ثمرات التنمية ذات طابع ديموقراطي شعبي.

أما خارجياً، فيتطلب الأمر رفع مستوى التبادلات الاقتصادية العربية البينية، وبينها وبين دول العالم الثالث عامةً، والدول المجاورة للمنطقة العربية في إفريقيا وآسيا، الذي من شأنه أن يسهم في تحقيق التنمية، إذ تكاد تلغي التبادلات البينية شرط التبادل اللامتكافئ التي تجبر تلك الدول على الخضوع له في ظل استمرار ارتباط اقتصاداتها رأسياً بالعولمة الرأسمالية. فمستوى تطور قوى الإنتاج بين الدول العربية ومعظم دول العالم الثالث متقارب، وبالتالي تكون أسعار التبادلات التجارية عادلة، كما يدفع القرب الجغرافي وتشابه عادات الاستهلاكية والتقارب الثقافي بين شعوب المنطقة يدفع إلى تكثيف التبادلات الاقتصادية فيما بينها.

إن تحقيق أقلمة اقتصادية عربية ومدّ جسور التعاون مع دول العالم الثالث، وخاصة الصين التي تملك قدرات اقتصادية هائلة، تتطلب وضع مشروعات تنموية مشتركة، إذ إن الإرادة السياسية، في حال توفرها، لا تكفي وحدها في رفع مستوى التبادلات الاقتصادية، بل إن رفعها دونما تخطيط قد يؤدي إلى الانزلاق نحو مشروعات تخدم الرأسمال السريع، والمضاربات العقارية، والمجالات الخدمية ذات المردودية الاقتصادية – الاجتماعية والتنموية الهامشية كما هو الحال في الكثير، إن لم يكن في معظم المشروعات التي يدخلها فيها رأس المال الخليجي إلى الدول العربية. من جهة أخرى، فإن تخفيض معوّقات التبادلات التجارية، أي تحقّق شرط الإرادة السياسية، لم تأتِ بنتائج كافية، فعلى الرغم من توقيع العديد من الاتفاقيات المتعلقة بتسهيل التبادلات التجارية، أهمها اتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، والعديد من الاتفاقيات الثنائية، إلا أن حجم التجارة العربية البينية ما زال أقل من 14% من إجمالي التجارة العربية مع العالم.

إن ضرورة تحقيق أقلمة اقتصادية عربية ليست نابعة من نزعة قومية عربية، بل من ضرورة اقتصادية، أثبتت أهميتها في العديد من الحالات التاريخية، كان آخرها ما عاناه الاقتصاد الأردني من انقطاع حدوده مع سورية ومنها مع لبنان، والخسائر التي تكبدها الاقتصاد السوري من انقطاع الطرق المؤدية إلى الأسواق العراقية والخليجية… وهذا يدلّ على أنه رغم الصغر النسبي لحجم التجارة البينية العربية، إلا أنها ما زالت مهمّة بالنسبة إلى اقتصاديات المنطقة، ولا سيما للمنطقة المعروفة بـ(بلاد الشام)، فهي بخلاف الدول العربية المنتجة للنفط، فإنها لا تمتلك موارد طبيعية كافية لتغطية احتياجاتها، فاقتصادها الإنتاجي قائم على الزراعة والصناعات التحويلية من جهة، ومن جهة أخرى فإن البديل عن التنمية القائمة على المشروعات الوطنية وتطوير العلاقات الاقتصادية العربية، سيكون استمرار الاعتماد على ريع المساعدات وتحويلات العاملين في الخارج وهي مصادر غير مستدامة وغير مستقرة، وتؤدي في نهاية المطاف إلى نموّ التخلف والدخول في أزمات اقتصادية وسياسية جديدة.

(الأخبار)

العدد 1104 - 24/4/2024