كيف ولد مفهوم الديمقراطية في شرقنا؟

يونس صالح:

طرحت قضية الديمقراطية في الشرق في أواخر القرن التاسع عشر بعناوين مختلفة ومطالبة خفرة. يومئذ كان (الشرق الأوسط) موزعاً بين السلطة العثمانية والدولة القاجارية، فهبت على رعاياها بعض نسائم الحرية أتية من احتكاك الدولتين بأوربا، فتلقتها الدولتان على أنها عاصفة حاولتا مواجهتها بما عُرف في السلطنة باسم الدستور، وفي المملكة الإيرانية باسم (المشروطية)، وكلاهما يعني الحكم المشروط بالقانون، إلا أن إقرارهما واجه مقاومة وتعسفاً من قبل العثمانيين والقاجاريين، واستدعى مقاومة وبطولات من قبل الشعوب الخاضعة للدولتين، لكن يبدو أن النضال الذي خاضته الشعوب قد طوى بعضه النسيان، فإذا بنا في البلدان العربية التي استقلت بسقوط السلطة العثمانية وتراجع موجات الاستعمار والانتداب لا نستلهم تراث نهضتنا الفكرية والسياسية، بل نعود إلى تراثنا القديم من زاوية (فحولة الشعراء) التي أقرت لأغراض لغوية لا تناسب طموحنا، إلى حياة تضع الإنسان في محور الحياة الكريمة، ثم تلهّينا بالشعارات السياسية في سبيل إقرار الديمقراطية، ولكن لم نُرسِها على أسس تربوية تنهل من تراثنا الظليل القديم الذي إذا قرأناه قراءة جديدة، لرأينا أنه كان يناقض الحكم المستبد، وتنهل من التراث العالمي الإنساني الذي سبقنا في هذا المجال.

إن الديمقراطية مفهوم عام يشمل مفاهيم فرعية تقوم بها، وإذا كان اشتقاقها اللغوي الإغريقي يعني حكم الشعب، فهو ينقض تالياً حكم الفرد واستبداده بمقدرات الشعب. وقد تكوّن عبر تجارب الحكم المختلفة منذ نظام الحكم في الحواضر الفينيقية واليونانية مفهوم للديمقراطية يقوم على العناصر أو المظاهر الآتية التي تعتبر تجليات لها. وهي على سبيل الاستئناس لا الحصر: الحرية (في مختلف مظاهرها)، والمساواة، والعدالة، واحترام الشأن العام، والحق في الاختلاف، والمسؤولية تجاه المجتمع.

صحيح أن القرار السياسي يشكل الإطار الأساسي لممارسة الديمقراطية، إلا أن الديمقراطية لا تتحقق بالقرارات السياسية، وسن القوانين، على أهمية ذلك، بل بتنشئة الأجيال على مضامين جديدة لبرامجنا التعليمية.. لكن كيف يتم تقويم شخصية الناشئة وتربيتها على الديمقراطية؟ هل يتم ذلك بالوعظ والإرشاد في زمن طغت فيه الفردية؟

أمام قصور هذه الوسائل التي فقدت جدواها، لا بدّ من تحويل التربية على الديمقراطية إلى خبز يومي، إلى عمل متواصل، إلى مناخ عام يغمر المجتمع بهوائه وتربته وضيائه ونوره، ويتطلب ذلك إحداث انعطاف عميق في مناهجنا التعليمية، وفي كل مناحي حياتنا.

فكيف يكون ذلك، لاسيما أن تراثنا الأدبي_ الفكري ولد ونما ونضج في إطار الأنظمة الاستبدادية منذ فجر التاريخ حتى أيامنا؟ وعلى الرغم من هذا الواقع المرير، فإن المنقب يجد في تراثنا نصوصاً أدبية وفلسفية تنبعث منها قيم اجتماعية إنسانية تطابق أو تحاذي مبادئ الديمقراطية.

لقد عُدّلت برامج التدريس في جامعاتنا ومدارسنا عدة مرات، إلا أن المضمون ظل يراوح في مكانه من حيث الهدف التربوي، فإذا بها لاتزال تربي الناشئة على نصوص من فنون المدح والهجاء والرثاء والفخر، إنها تنمي في الناشئة الروح الفردية الوصولية القائمة على الأنانية الخالية من الغيرية، أي من الشعور بالانتماء إلى مجتمع ينبغي أن يوفر لجميع أفراده الحرية والمساواة والعدالة ويشعرهم بالتعاضد الاجتماعي.

يبدو أننا بعد انقضاء أكثر من ألف عام، كما قال شاعر قديم، نرقى إلى أسفل! فهل لدينا الجرأة على قراءة تراثنا من جديد، على ضوء حاجاتنا، وفي سبيل تنشئة إنسان بلدنا تنشئة جديدة تتوافق مع مُثل الحرية والكرامة الإنسانية؟!

العدد 1105 - 01/5/2024