مقطع من سمفونية البطيخ الأحمر

إلى صقر عليشي شاعراً وصديقاً

عبد الرزاق دحنون:

كان صباح اليوم الأخير مميزاً، فقد أنهينا مهامّ التدريب القتالي في هذا الفجر العظيم، ومن ثمَّ سيذهب الرفاق كلّ إلى عمله وذاكرته مليئة بحوادث صغيرة، بعضها مفرح، تنشرح الصدور له، وبعضها الآخر حزين تنقبض النفوس من بشاعته.

المهم في الأمر، وكله مهم، استيقظنا وكان وجه الفجر لا يزال شاحباً، لم يغسله ندى الصباح بعد، والعتمة تحاول التشبث بالمدى المفتوح للأعداء والنسيان. ساحة المعسكر واسعة، فسيحة، جرداء، أحرقت الشمس أعشابها، فيبست من أول الصيف. ينبسط السهل أمامنا على مدِّ النظر، ملتصقاً بالأفق البعيد، ويظهر الشروق في لحظات الولادة على عجل، حتى العيون الناعسات تُحدِّق بقرص الشمس الوليد دون أن ترفّ لها جفون.

 

لملمنا أغراضنا المتناثرة في أرض الخيمة، ومن جملتها (بطيخة) بقيت صامدة من مساء أمس إثر خلاف على وقت أكلها، لأننا في المعسكر لم نتفق أبداً على الوقت الأنسب لأكل البطيخ الأحمر، وبما أننا تعلمنا أن (الديمقراطية) جيدة حين تعمل، فقد كان لكلٍّ منَّا رأيه: البطيخ الأحمر في الصباح يُنعش الروح ويبعث في النفس النشاط والإقبال على الحياة، إنه يُزيل الحزن. كلا، يا رفاق، عند الظهيرة يطفئ الظمأ ويُشعركم بالطمأنينة والأمان. كلُّ هذا غلط، والصحيح، لا يوجد ألذُّ من البطيخ الأحمر وقت الغروب، كأنك تقضم الأفق حتى تعمَّ الظلمة، أرأيتم أروع من ذلك؟!

كانت تتمركز قرب الحقائب ومطرات المياه وعُدَّة شخصية أخرى، تبدو في موقعها كخوذة جندي خضراء في حقل قمح ناضج أصفر. وهنا في هذا الصباح المفعم بالندى والذكريات خطرت ببالي (غرفة المحارب) التي كتب عنها الشاعر السوري (رياض الصالح الحسين) قصيدة بديعة في حسنها جاءت في ديوانه الأخير (وعل في الغابة) الصادر عن وزارة الثقافة السورية بعد وفاة الشاعر بعام، وقد توفي الشاعر في عمر مبكر لم يتجاوز 28 سنة بعد، مات في مشفى المواساة في دمشق بتاريخ 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 1982 وترك لنا أربع مجموعات شعرية. يقول رياض الصالح الحسين عن (غرفة المحارب):

يتوسّد خندقه الرمليّ وحيداً

ويداه تحيطان برشاشٍ مملوء بالموت

سيأتي الزوّار مساءً

زائرة تحمل للأرض قنابل ضوئية

أُخرى ستمشط بالنار سهولاً تمتدُّ

سيأتي الأعداء مساءً

كقطيعِ ذئابٍ كاسرةٍ

يلتهمون بيوت الطين

وأشجار التفاح

وكرّاسات الأطفال

ورأسَ الجنديّ

الجندي يرتب غرفته الرملية

الماء هنا

والطلقات هناك

وها هي صورة نرجسة تبتسم لجندي

يحملُ رشاشاً وخضاراً

الزوار يجيئون

فأهلاً

يطلق طلقته الأولى

سيظل يقاتل حتى آخر حبّة رمل من هذا الخندق

قال أحدهم: أسرعوا يا رفاق، سنهدم الخيمة ونسلمها لأمين المستودع حتى لا نتأخر عن موعد رحيل الباصات. أجاب آخر: انتظروا قليلاً كأس الشاي الآن فرصة لا تُفوَّت، لن تهرب الباصات منا. قال وهو يمسك بعمود الخيمة: فيما بعد، لا وقت لكأس الشاي الآن. أجاب من يريد أن يُدخن: لماذا فيما بعد؟ موقد الغاز لا يعمل في العراء! انتظروا أرجوكم، كيف سندخن على الريق، يا الله ما هذه الفوضى التي وصلنا إليها؟

الخيمة واسعة على حدِّ تعبير أمين المستودع الذي كان يمتدح خيامه وكأنه صانعها، حوت أحد عشر رفيقاً، اجتمعوا بين طياتها، بقضّهم وقضيضهم، عشرين يوماً، وهي مدة معسكرنا. كيف تقوم الخيمة؟ ثلاثة أعمدة، وبعض حبال الشد، والعديد من الأوتاد، وكم حجر صوان من هذه البيداء، وتكون جاهزة للنهوض. وها هي ذي الآن قد خُلعتْ أعمدتها الخشبية، فناخت على الأرض، كجمل أنهكه الترحال. سأل أحدهم: من عنده فكرة عن طي الخيام وتجهيزها للحمل على الأكتاف؟ صاح آخر: أتظن ولدنا في الصحراء!

صالب الرفاق الأعمدة كيفما اتفق، ثمَّ وضعوا الخيمة مطوية فوق الصليب، فبدت مثل بعير بارك، والآن يحتاج الصليب الثقيل إلى حمل و(هزّ أكتاف) كما يُقال، لأن مكان أمين المستودع ليس قريباً على كل حال، حملها أربعة رفاق كما يُحمل التابوت، وساروا باتجاه المستودع الذي يلوح في الأفق البعيد.

فجأة، بعد رحيلهم، ظهرت البطيخة واضحة، فصيحة، كأنها بشرى سارة تنتظر من يفضح أسرارها، منظرها يُشعرنا بسعادة غامرة مع ارتفاع شمس الضُّحى في هذه البيداء المُقفرة. ذكّرتني طلّتها المُبهجة بمقطع من قصيدة (التساؤلات) من ديوان الشاعر السوري صقر عليشي (قصائد مشرفة على السهل) الذي كان قد صدر حديثاً:

ما الذي يُخيف البطاطا

كي تخفي رأسها في عتمة الأرض

في حين يستقبلنا البطيخ

مدلاً

بكامل رأسه

من خلال تعاون الرفاق في خيمتنا أيقن الجميع أنها ستبقى سليمة حتى عودتهم. سارت القضية في هذا الاتجاه إلى أن لفت نظري ما يحدث عند خيمة جيراننا من حركة مُريبة، فقد لمحت في نظراتهم وهمساتهم مؤامرة ما. لم تُسعفني سرعة البديهة إلا بعد فوات الأوان، حين أصبحت البطيخة الغالية بين أيديهم. قلتُ لسارقها: أخي أرجوك، ليست المسألة في بطيخة ولكن رفاقنا في طريق العودة، انتظروهم على الأقل، دعوا يومنا الأخير يمرّ على خير!

على من تقرأ مزاميرك يا داود! ذهبت توسلاتي أدراج الارياح، ذُبحت البطيخة على عجل وسال دمها طازجاً، فامتصته التربة العطشى. أكل الجميع، كلّ حسب نصيبه وجشعه، بين الجد واللعب صارت البطيخة في خبر كان. عاد الرفاق بعد تسليم الخيمة وفي عيون كل منه تساؤل، لم يتكلموا، جلسنا نُحدق في وجوه بعضنا، تمنيت حينئذٍ أن تنشقّ الأرض وتبلعني. قلتُ: يا رفاق. قال أحدهم: لا تكمل حديثك، لأن الأمر مفهوم، كُنا نحلم في طريق العودة بلب البطيخة الأحمر البارد يُداعب شفاهنا العطشى، وبذلك ننسى تعب المسير. قلتُ: تعرفون أن بعض رفاق المعسكر بعفوية وغشم أحياناً يتصرفون.. من الصعب الاستمرار في الحديث على هذا المنوال، فقد بدأ الغمّ يجد طريقاً إلى النفوس البشرية التوَّاقة دائماً إلى الفهم والمعرفة.

الشمس تسير بخط صاعد نحو قبة السماء، فنحن في شهر آب اللهاب، ينعكس نورها الوهاج على الأحجار المبعثرة، بين أحجار الصوان الصغيرة، (فجأة) وما أجمل كلمة (فجأة) هذه، لمحت ساق نبتة ضعيفة تحمل أوراقاً خضراء أنست برطوبة التربة في حذاء الخيمة، يا لها من مصادفة مفرحة، لقد انتشت بعض بزور البطيخة التي كسرناها في أول أيام المعسكر، وها هو ذا الساق بعد عشرين يوماً يتشبث بالبزرة حاملاً معه ورقة خضراء زاهية مرتجفة، يُحاول جاهداً أن يجد مكاناً، ولو صغيراً، في هذا العالم.

ترك الأشياء المألوفة، بقعة أرض، صخرة، جذع شجرة، أو حتى درب نمل كان يمرُّ قريباً من خيمتنا، يُشعركَ بوحشة الفراق، قبل برهة كان حماس الرحيل يطغى على مشاعر الرفاق، والآن حان الأوان، وها نحن أولاء نستجمع في مخيلتنا أكبر عدد من صور المكان، قبل أن يهرب منا، لا حيلة في اليد، لابد من الوداع الأخير، سرنا مع الشمس في رتل باتجاه ساحة المعسكر، لننتظر الباصات.

العدد 1105 - 01/5/2024